قلت إن وزارة الثقافة, نتيجة ما أوضحته في مقالي السابق, تبدو ضعيفة التأثير إزاء تيار إظلامي قوي, يؤثر الجهل علي المعرفة, والقبح علي الجمال, والنقل الحرفي علي العقل المفتوح وماذا يمكن أن تفعل وزارة ثقافة في مواجهة تعليم يزداد تخلفا ويعمل ضدها, وفضائيات دينية تقوم بتحريم الإبداعات التي ترعاها, ووعاظ ودعاة مساجد وزوايا يلعنون الرسم ويطالبون بتهديم التماثيل وتخريب وتجنب إبداعات الأدب التي هي بدعة من بدع الشيطان ولذلك كان وزير الثقافة الهدف الأكثر تلقيا لسهام جماعات التطرف الديني. ولن أنسي الضجة الدينية التي بدأها نواب الاتجاه الإسلامي في البرلمان حول رأي شخصي له في الحجاب الذي ليس ركنا من أركان الإسلام ولا فريضة مؤكدة, فهناك من أشبعه درسا شرعيا انتهي إلي ما أقول, مثل الستشار سعيد العشماوي في كتابه عن الحجاب وهو ما فعلته طائفة من أهل الاجتهاد فيما كتبوه عن قضية الحجاب, ابتداء من الشيخ رفاعة الطهطاوي, وليس انتهاء بالشيخ الباقوري الذي كانت بناته سافرات. وسؤالي الذي أطرحه علي نفسي وعلي القارئ, بعدما سبق تري ماذا كان يمكن أن يكون تأثير وزارة الثقافة لو كانت تعمل في مناخ مختلف؟ إني أتخيل قوة تأثيرها لو تعاونت تعاونا متكافئا وفعالا مع وزارات التعليم والإعلام والأوقاف والمجلس الأعلي للشباب والرياضة والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي لحقوق الإنسان, ناهيك عن مؤسسات المجتمع المدني, في اتجاه إشاعة ثقافة دولة مدنية حديثة في كل مجال واتجاه ومن المؤكد أن الدور المنوط بمجلس الوزراء كبير في مواجهة الوضع الكارثي للثقافة المصرية, وأول ما ينبغي فعله في ذلك هو تشكيل مجموعة وزارية للتثقيف, تضم وزارات التعليم والإعلام والثقافة والأوقاف وغيرها من الوزارات التي ترتبط بعمليات التثقيف المجتمعي في مجالاتها المختلفة وأنا أعلم أن وزير الثقافة تحدث حول تحقيق التفاعل بين الوزارات أكثر من مرة, وقام بأكثر من مبادرة, ولم يتأخر قط عن أية دعوة للتعاون, لكن الأمر لم يعد يتوقف الآن علي مبادرة فردية هنا أو هناك, وإنما لابد من خطة شاملة للدولة ترسمها مجموعة وزارية للتثقيف المجتمعي, تهدف إلي تمكين وجود ثقافة دولة مدنية حديثة بكل لوازمها الحداثية, والتعاون في عملية إصلاح جذري, أو تطوير أكثر جدية لآليات الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك بين الوزارات المعنية في بعث طاقة عفية في عمليات التثقيف التي تستبدل بثقافة التخلف ثقافة الاستنارة ولا بأس لو أضيف إلي أعباء هذه المجموعة تنشيط وتشجيع دور المجتمع المدني وجمعياته للسير بقوة في الاتجاه نفسه, أملا في تجاوز الكارثة الثقافية التي نعيشها, وأدعو الله أن يتحقق حلمي في الخروج من شباكها, منتصرين عليها, بإعادة الوعي الثقافي العام إلي ما كان عليه في الحقبة الليبرالية التي كانت العصر الذهبي للثقافة المصرية, اضافة إلي ما أنجزت هذه الحقبة بما يتناسب مع كرة أرضية تمت عولمتها, فضلا عن التطورات المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات وأدوات المعرفة والآداب والفنون ويعني ذلك, أخيرا, أن الذين فهموا من مقالاتي الثلاثة السابقة أنني ضد إنجازات وزارة الثقافة قد أساءوا الفهم وأخطأوا خطأ فادحا, فرأيي الذي لا أزال عليه وذكرته كثيرا أن وزارة الثقافة لا تستطيع أن تواجه الكارثة وحيدة, خصوصا بعد أن أسهمت أطراف عديدة في وصول الثقافة المصرية العامة إلي ما وصلت إليه والحق أن النجاح في مواجهة الكارثة التي تمر بها الثقافة المصرية مشروط, حتما, بتعاون جناح الحكومة ممثلا في الوزارات التي تحدثت عن أهمها مع مؤسسات المجتمع المدني التي لا تزال تحمل شعلة الاستنارة, متمسكة بحقوق الإنسان, وأولها الحقوق الكاملة للمواطنة, ونبذ ثقافة التمييز بكل أنواعها الديني والاجتماعي والسياسي والثقافي تري هل يفلح مجلس الوزراء في تشكيل مجموعة وزارية للتثقيف؟ السؤال مطروح علي رئيس الوزراء وأتوقع أن يرد علي السؤال عمليا, لأني علي ثقة بإدراكه الكارثة الثقافية العامة التي نعيش فيها, وأن وعي الشعب المصري قد وصل إلي ما يحتم وجود استراتيجية جديدة لإعادة تثقيف المجتمع في كل المجالات, فذلك هو الطريق الوحيد لتمكين حضور وعي الدولة المدنية ولوازمها في الأذهان قبل الأعيان. وتبقي كلمة حق أخيرة عن أبرز الإنجازات التي قامت بها وزارة الثقافة في العشرين سنة الأخيرة, فالمؤكد أنها أنجزت الكثير, وكان يمكن أن تنجز أكثر وأكثر لو كانت قنوات الاتصال بينها والوزارات المشتركة في الأهداف أكثر اتساعا وأقوي فاعلية فيما أرجو تحققه في المستقبل. وأول إنجاز ملموس لهذه الوزارة هو هدم أسوار العزلة التي فرضت علي مصر بعد كامب ديفيد ومقاطعة العرب لها, فقد أعاد المجلس الأعلي للثقافة المثقفين العرب إلي مصر, مؤكدا حضورها الثقافي القومي الذي أحال المجلس الأعلي للثقافة إلي مجلس قومي وساحة حرة بلا قيود لكل المثقفين العرب ويلحق بهذا البعد القومي الدور الذي قامت به مكتبة الإسكندرية التي ظلت, ولا تزال, نافذة للعالم علي مصر, ونافذة لمصر علي العالم وقد أكمل المجلس الأعلي الهدف نفسه بتأكيد الروابط الإنسانية الثقافية بين مصر والعالم, وتولي دعوة مشاهير كتاب العالم مثل مارتن برنال وجاك ديريدا وروبرت يونج وآلان روب جرييه ويوسا الكاتب الحائز علي جائزة نوبل أخيرا وكان الهدف من هذه الدعوات فتح أفق للحوار بين المثقفين العرب وكبار مفكري العالم وكتابه وكان ذلك في موازاة الأوبرا التي تولت دعوة الفرق العالمية لإضافة معرفية حوارية جديدة مع الجمهور المصري والعربي وقام قطاع الآثار بأضخم عملية ترميم للآثار المصرية القديمة في العصر الحديث, من غير تمييز بين الآثار الفرعونية والمسيحية واليهودية والإسلامية, مدللا بذلك علي التسامح الفكري من ناحية ومغزي شعار الدين لله والوطن للجميع من ناحية مقابلة أما مشروع إعادة ترميم القاهرة الإسلامية فهو مفخرة من مفاخر وزارة الثقافة, خصوصا ما اكتمل منه في شارع المعز لدين الله الفاطمي الذي تحول إلي مزار سياحي عالمي, لا سيما مجموعاته الأثرية التي تدل علي مجده القديم, وأخص بالذكر مجموعة السلطان قلاوون, ناهيك عن إعادة ترميم الدرب الأصفر, وعدد غير قليل من القصور الإسلامية ومن عجب أن هذه المفخرة التي تحققت لم تهتم بها أجهزة الإعلام ولم تخصص برامج لها, ولا ألقت بالا إليها مدارس وزارة التربية والتعليم, لتطلع أبناءها علي مجد العمارة الإسلامية التي نزهو به حقا, لا بالبؤساء من المتأسلمين الذين يسيئون إلي الحضارة الإسلامية بأفكارهم ولابد من الإشارة إلي معجزتين في طريقهما إلي الاكتمال, بعد افتتاح دار الكتب المصرية ومتحف الفن الإسلامي, وهما متحف الحضارة وبجواره متحف الأرشيف الوطني ودار الوثائق الجديدة في عين الصيرة, والمتحف المصري الكبير الذي سيتم افتتاحه في عام2012 ولن أتحدث عن إنقاذ أبي الهول, فزميلي زاهي حواس أولي مني بالحديث عن ترميم وبناء متاحف جديدة للآثار ولا أملك سوي إلقاء السؤال ماذا فعلت أجهزة الإعلام في تعريف هذه الإنجازات إلي الناس؟ وهل وضعت وزارة التعليم زيارة هذا التراث العظيم علي أجندتها ليفخر الطلاب بماضيهم العظيم؟ وماذا عن إسهام المجلس الأعلي للشباب في تقديم صورة خالدة إلي الشباب من ماضيه كي يعتز به؟ كل ما حدث هو التسيب باسم الديموقراطية التي دفعت فقهاء الجهالة إلي مهاجمة تماثيل القدماء بوصفها أوثانا, وتحريم الفنون بعامة بوصفها كفرا وإلحادا, فبدا الأمر كأن وزارة الثقافة تحرث في الهواء أو في البحر. ومن العجيب أننا لم نعرف, بعد, قدر مشروع القراءة للجميع الذي تشرف عليه السيدة سوزان مبارك, وهو المشروع الذي حقق إنجازات هائلة في تقديم الكتاب للجمهور القارئ بأرخص الأثمان, كي يحقق المشروع غايات القراءة للجميع الذي لا نظير له في العالم العربي كله ومن السهل أن يقوم المسئولون عن النشر في مؤسسات وزارة الثقافة بالحديث عن آلاف الكتب التي يطبعونها سنويا ويتنافس المجلس الأعلي للثقافة والثقافة الجماهيرية مع هيئة الكتاب في إصدارها وتوزيعها بأسعار مدعمة ولن أخجل من ذكر المركز القومي للترجمة الذي سيكمل الألف الثانية من كتبه المترجمة مع نهاية العام, متعاونا مع دور النشر الخاصة, ومحققا أعلي معدلات للترجمة في العالم العربي كله, بما في ذلك أغني بلدان النفط وأخيرا هناك دور صندوق التنمية الثقافية في فتح مكتبة جديدة كل شهر تقريبا, وإتمام إنشاء أكثر من مائة وسبعين مكتبة في قري ونجوع مصر, ليعرف الكتاب طريقه إليها, في موازاة المكتبات المتنقلة لدار الكتب المصرية التي تسهم, بدورها, في عملية نشر الكتاب. ولا شك أن كل هذه الإنجازات وغيرها كثير, فلم أتعمد الحصر بل التمثيل, أسهمت في تحريك مياه الثقافة الراكدة, وخلقت حالة حراك ثقافي, محدودة, حقا, لكنها فاعلة, وإن ظلت محاصرة باتهامات جماعات التطرف الديني الإسلامي والمسيحي في آن ولذلك تظل وزارة الثقافة ورجالها أكثر أعداء جماعات التطرف الديني أو الإسلام السياسي في مصر والعالم العربي, وتبدو مؤسسات وزارة الثقافة, مع مكتبة الإسكندرية, وبعض قنوات الاستنارة, في القنوات الحكومية والخاصة, ضعيفة التأثير, محاصرة بتيارات الإظلام وأسلحة التكفير ولا يعني هذا بالقطع أن وزارة الثقافة كاملة مكملة, وأنها ليست بعيدة عن النقد, ففيها ما يستحق النقد بالقطع, وما ينبغي أن نتقبله بصدر رحب, ولكنها تظل وزارة مظلومة من مجلس الوزراء الذي لم يحسم أمره إلي اليوم في تكوين مجموعة وزارية متضافرة متعاونة, متحررة من القيود البيروقراطية, ومدعومة ماليا لإعادة تثقيف الشعب المصري حتي لا يتم الاستيلاء الكامل علي عقله ووعيه من جماعات التطرف الديني وأنصار الدولة الدينية ودعاتها ونرجو أن يحدث هذا قبل تفاقم الكارثة, والوصول إلي درجة استحالة الإنقاذ.