قبل عام1952 كان نظام مصرالاقتصادي رأسماليا وفي ظل هذا النظام كان علاج الفقراء وغير القادرين والمصابين في الحوادث متاحا عبر مستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية. وكانت مستشفيات وزارة الصحة الكبري مثل أحمد ماهر وأم المصريين وجميع المستشفيات في عواصم المحافظات والمدن الكبري والصغري. تقدم هذه الخدمة, بالإضافة إلي بعض المستشفيات المتخصصة كانت المستشفيات الجامعية تقدم أيضا خدمة العلاج للفقراء والطبقة الوسطي بكفاءة تامة. كما كانت بعض الهيئات تقدم الخدمة الصحية لموظفيها مباشرة مثل القوات المسلحة وقناة السويس والسكة الحديد. وبالنسبة لكبار الموظفين والأثرياء والطبقة العليا كانت هناك مجموعة من المستشفيات الخاصة التابعة للجمعيات الأهلية والخيرية وكان يوجد في مجالس إدارة بعضها بعض الأمراء والنبلاء وكانت تقدم خدمة العلاج الخاص. بعد عام1952 سقط الحكم الملكي وسيطرت الدولة علي مصادر الانتاج وأممت الشركات والبنوك الأجنبية وفتتت الملكيات الزراعية الكبري وأسست القطاع العام وأصبح النظام الاقتصادي في البلاد اشتراكيا. وفي القطاع الصحي انشأت مئات الوحدات الصحية في الريف. وفي الستينيات تم انشاء المؤسسة الصحية العمالية وصدر قانون التأمين الصحي وتم ضم المستشفيات الخاصة الكبري لوزارة الصحة تحت اسم المؤسسة العلاجية وشملت الجمعية الخيرية الاسلامية والقبطية ومبرة محمد علي والجمهورية ودار الشفا وغيرها وقد قامت هذه المستشفيات بسد حاجة التأمين الصحي المتزايدة مع زيادة اعداد المؤمن عليهم في الحكومة والقطاع العام وكانت كباقي مستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية تقدم خدمة العلاج للفقراء وغير المؤمن عليهم وحالات الحوادث. وكانت قرارات العلاج علي نفقة الدولة تصدر للذين ليس لهم علاج في الداخل ولكن انشاء المؤسسة العلاجية كان مصحوبا بظاهرة سلبية تمنع تقدم هذه المستشفيات, فقد الغي القائمون علي أمرها الهيكل الطبي في كل منها. في هذه الفترة انشأت مستشفي هيئة الشرطة والمقاولون العرب والنقل العام وانشأت وزارة الصحة مستشفيات خاصة بالتأمين الصحي مثل صيدناوي و6 أكتوبر, كما انشأت معهد القلب ومعهد السكر ومعهد التغذية ومعهد الرمد كما أنشأ معهد السرطان التابع لجامعة القاهرة ومعهد الكلي التابع لجامعة المنصورة. وجميع هذه المستشفيات كانت تساهم في علاج القادرين وغير القادرين. ومنذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي بدأ عهد الانفتاح وفتح باب الاستيراد وعادت كثير من الشركات والتوكيلات وفروع البنوك الأجنبية. وظهرت الحاجة إلي مستشفيات تلبي حاجة هذه المنشآت الجديدة ذات المستوي المادي المرتفع فانشأت المستشفيات الاستثمارية5 نجوم إلا أنها اقتدت بالمؤسسة العلاجية في عدم انشاء هيكل طبي بها واكتفت باستيراد الأطباء من الجامعات وغيرها للعمل ساعات محدودة اسبوعيا دون ان يكون هناك ما يربط الطبيب بالمستشفي عدا الأجر الذي يتقاضاه. وبذلك اصبحت هذه المستشفيات عقيما لا تنتج بحثا أو تقدما في عالم الطب وإن كانت في نفس الوقت تنشط بين الحين والآخر في استضافة الأساتذة الأجانب لالقاء محاضرات واجراء جراحات وإن كان أكثرهم لا يزيد في المستوي العلمي عن أقرانهم المصريين, ولكنها وسيلة لزيادة الأرباح وفي بعض الاحيان تغني البعض عن السفر للخارج للعلاج. ولم تقف المستشفيات الجامعية بعيدا عن الانفتاح فأنشأت عين شمس التخصصي وقصر العيني التعليمي الجديد وهي مستشفيات استثمارية تعالج بأجر. وفي نفس الوقت قامت وزارة الصحة بانشاء عدد من المستشفيات الاستثمارية الكبري وهي معهد ناصر ومستشفي الهرم ومستشفي الهلال ومستشفي التأمين الصحي في مدينة نصر. وبعد ان انضمت مصر إلي اتفاقية التجارة العالمية والغت الحواجز الجمركية وسمحت بحرية نقل الأموال وانتقلت مصر إلي عصر العولمة واصبح الاستثمار هدفا لجميع المؤسسات الصناعية والتجارية والخدمية وتضاءل العلاج المجاني في جميع مستشفيات وزارة الصحة إلي أقصي حد يكفي فقط لابقاء هذه المستشفيات مفتوحة لعلاج من يستطيع دفع نفقات العلاج أو يحصل علي قرار علاج من وزارة الصحة وظلت المستشفيات الجامعية غير الاستثمارية تعالج غير القادرين والفقراء ونسبة من القادرين لأغراض تعليمية تفي بكونها جزءا من كلية الطب. وعندما وصلت الأمور إلي هذا الحد أصبحت خصخصة هذه المستشفيات هاجسا يتردد في أذهان الكثير من الشركات ورجال الأعمال من مصر ومن الخارج. ولكن الكثير عارضوا هذا الاتجاه الذي سيلغي نهائيا علاج الفقراء ومحدودي الدخل. ومن ناحية أخري فكر البعض في انشاء هيئة لادارة المستشفيات الجامعية علي أساس اقتصادي وفي هذا قضاء تام علي المستوي العلمي والبحثي في هذه المستشفيات لارتباط الناحية الاقتصادية بالناحية العلمية البحثية لان المستشفي جزء من كلية الطب وهي معهد تعليمي بحثي في المقام الأول. ومع تقلص نظم العلاج المجانية في جميع المستشفيات بدت الحاجة ماسة إلي نظام علاجي جديد وبدا أن المخرج الوحيد هو حصول المرضي الفقراء غير المؤمن عليهم علي قرارات العلاج علي نفقة الدولة, ولكي يحصل المريض علي قرار علاج فلابد أن يبحث عمن يساعده في الحصول علي القرار, ولابد أن يكثر الوسطاء الذين يعمل أكثرهم بمقابل معنوي أول الأمر يتحول إلي مادي فيما بعد ولابد أن تصل الخدمة أولا لمن يستحقها ومع كثرة المرضي والقرارات أصبحت تصل لمن لا يستحقها لاجراء عمليات تجميل وعلاج مواز أو غير مقرر طبيا. وفي الواقع فان قرارات العلاج تصدر علي حساب ميزانية المستشفيات وأصبحت تلتهم أية زيادة كان يمكن ان تخصص للمستشفيات. وإذا تأملنا ميزانية القطاع الصحي منذ10 سنوات نجد أن ميزانية التأمين الصحي كانت2.5 مليار جنيه ووزارة الصحة6 مليارات جنيه وقرارات العلاج علي نفقة الدولة1.5 مليار وانفق المواطنون10 مليارات جنيه علي العلاج, ولابد أن تكون ميزانية قرارات العلاج قد تضاعفت الآن. ولابد أن نتساءل هل من الأجدي والممكن أن ندعم مئات المستشفيات التي تعالج هؤلاء المرضي مباشرة أم أن الأجدي أن نخصص مبلغا لعلاج كل مريض وهم ملايين, وعلينا أن نفكر هل الاسهل علي المريض أن يحصل علي قرار علاج من وزارة الصحة ليذهب به إلي المستشفي أم أن الأسهل أن يذهب إلي المستشفي, مباشرة والمسألة إذا المستشفيات أم قرارات العلاج؟ ولابد أن نأخذ في الاعتبار أن القضاء علي مشكلة علاج الفقراء وغير المؤمن عليهم تعتمد علي نشر مظلة التأمين الصحي علي جميع المواطنين وهو ما يجب أن يخضع لسياسة تعتمد علي مصادر كافية للتمويل من جانب الدولة والمواطنين. ومن الطبيعي أنه كلما زاد عدد المؤمن عليهم صحيا قلت قرارات العلاج. وإلي أن يحدث ذلك فعلينا أن نختار اما قرارات العلاج والعودة إلي الوراء واما النهوض بالمستشفيات والتقدم إلي الامام. وفي الحقيقة فإن النهوض بالمستشفي سواء حكومي أو أهلي أو خاص هو السبيل الوحيد للتقدم في مجال الطب والصحة, فنحن نقيس مستوي الطب فيما يقدمه المستشفي للأطباء من تعليم وتدريب وما يقدمه للطب من أبحاث ونشر علمي وما يقدمه للمرضي من مستوي عال من العلاج. وإذا ينبغي أن نعمل بكل جهد وتحت غطاء قانوني علي أن نعيد للمستشفيات كفاءتها وتقدمها بهياكل طبية تتفرغ للعمل بها وميزانية كافية لعلاج القادرين وغير القادرين وللتعليم المستمر والتدريب والبحث العلمي وقد نحتاج إلي عشر سنوات أو أقل أو أكثر لنصل ولكننا يجب أن نبدأ ومن الآن.