اشار السيد الرئيس مؤخرا في عدة احاديث الي ضرورة وأد الفتنة الطائفية والكف عن تجريح العقائد الدينية والحرص علي الوحدة الوطنية. وليس من عاقل محب لوطنه بل ولدينه ان يتردد في تلبية هذا النداء والالتزام به. ولكن البعض قد يفسر ذلك بأنه دعوة للصمت وعدم الحديث بتاتا عن الشأن الديني, وتجاهل ماقد يحدث من احداث تهدد بالفعل وحدة الوطن, علي مظنة ان الصمت يعني الهدوء والاستقرار وانه مادمنا لانتحدث عن الخطر فقد زال الخطر, وحبذا لو امتد هذا الصمت ليشمل كل مايمكن ان يثير القلق في كافة المجالات من السياسة الي الاقتصاد بل وحتي الي الرياضة. لقدفهمت دعوة السيد الرئيس, ولعلي لا اكون مخطئا, باعتبارها دعوة الي افساح مساحة اوسع لحديث العقل ولصوت الاعتدال والوسطية وتقبل الآخر بعد ان كادت تلك المساحة ان تتلاشي وسط صراخ تلك القلة من المتشنجين والمتطرفين. اي انها دعوة لفتح مزيد من الابواب والنوافذ وليس لاغلاقها. ان الدعوة لاحترام العقائد الدينية انما تعني احترام عقائد الآخرين, فغني عن البيان ان المرء يقدس عقيدته ومن ثم فأنه ليس بحاجة الي من يدعوه لاحترامها, اي ان الدعوة لاحترام العقائد انما تعني احترام مايعتقد الآخر انه مقدس ولايشاركه المرء في ذلك التقديس. وذلك هو جوهر الفرق بين التقديس والاحترام, انني علي سبيل المثال لااقدس البقرة بأي حال ولكني اذا كنت في حضرة بوذي يقدسها فينبغي ان احترم عقيدته واحرص علي الا يصدر عني مايفهم منه انني لااري في البقرة سوي حيوان من الحيوانات المسخرة لنا والتي يحل لنا ذبحها وتناول لحمها. وغني عن البيان ان المرء اذا كان لايشارك الآخر في تقديس مايقدسه, فليس من شك في انه لايري في تلك المقدسات ماهو جدير بالتقديس, وليس من شك كذلك في ان افصاحه عن مبررات موقفه لابد و ان يحمل تجريحا وتقليلا من شأن ذلك الذي يقدسه الآخر, وليس من شك ايضا في ان ذلك الآخر يعرف يقينا مجمل تلك المبررات سواء افصح عنها المرء او لم يفصح. ويصبح الموقف انذاك لايتعلق بما يؤمن به المرء ولاحتي برفضه لما يؤمن به, ولكن بتبادل التصريح بمبررات الرفض المتبادل ومايحمله ذلك التصريح حتما من تجريح متبادل, ولم يعرف التاريخ البشري تجاوزا لذلك الموقف الا باتباع واحد من عدة سبل لعل أهمها: اولا: الاحتكام الي موازين القوي بحيث يفرض الطرف الاقوي علي الطرف الاضعف التزام الصمت وتقبل مايناله من تجريح عقائدي, وليس المقصود بموازين القوي في هذا السياق القوي الفكرية او الاقناعية او العقيدية بل القوي المادية الخالصة متمثلة في السلطة او السيطرة المالية او الاكثرية السكانية او الاستقواء بالضغوط العالمية الي اخره, وفي هذه الحالة قد يسود الهدوء لفترة ولكن الطرف المقهور يظل متململا يتحين فرصة اختلال موازين القوي لصالحه ليمارس نفس اللعبة. ثانيا: التوافق علي الصمت الي ان تتوافق نخب المفكرين من اهل الاختصاص الديني علي عدم الخوض في مبررات رفض عقيدة الآخر, والاقتصار في خطابهم الجماهيري علي طرح القواسم المشتركة او تجاهل الآخر تماما, وقصر مناقشة امور العقيدة عليهم وحدهم وفي دوائر مغلقة, متوقعين ان يلتزم ابناء المجتمع من العامة بذلك. ولا اظن ان مثل ذلك الالتزام يمكن ضمانه بأي حال, فعبر التاريخ كان العوام في اسواقهم وبيوتهم وتجمعاتهم يتناقشون دائما في كل ما يعن لهم شاءت السلطات او لم تشأ, واتفقت نخب اهل الاختصاص او اختلفت, خاصة في ظل عصر اصبحت فيه نصوص العقائد المقدسة جميعا وكذلك التهجمات عليها في متناول الجميع, اذا لم تكن مكتوبة فهي متوافرة علي شبكة المعلومات. ثالثا: التوافق علي تقبل الآخر كما هو في ذلك تعبيره عن عقيدته التي لا أومن بها واعتبار ذلك التعبير رغم مايحمله بدرجة او بأخري من تعريض بعقيدة المرء من الامور المسموح بها والتي لاتثير غضبا طالما كانت متبادلة. وذلك هو السائد في عديد من دول الغرب, والذي كان سائدا لدينا في فترات تاريخية متنوعة حين كان البعض منا يتبادل النكات التي تحمل تجريحا صريحا في عقيدة الاخر ويعتبر الجميع ذلك من قبيل المزاج الذي قد يستهجنه البعض ولكنه يظل مزاحا في نهاية الامر, فثمة قانون من قوانين علم النفس الاعلامي يقوم علي ان سياق الرسالة لايقل اهمية عن نصها في كثير من الاحيان ويشمل ذلك السياق الصور المتبادلة للمتكلم والمخاطب, فكثيرا مايستخدم رجل الدين او الطبيب الفاظا صريحة قد تعتبر خارجة علي قواعد الادب اذا ما صدرت عن غيرهم. خلاصة القول: الصمت اذن ليس ممكنا والتجاهل مستحيل والحلم بإقناع الجميع بصواب عقيدة واحد امر لايعدو ان يكون خيالا واهما, وليس من سبيل اذن سوي السعي الجاد لارتفاع الصوت المعتدل الي جانب العمل العلمي الدءوب لتغيير الاتجاهات السائدة حيال الآخر المختلف دينيا, وهي مهمة قد تبدو صعبة ولكن ماقد ييسرها ان تغيير الاتجاهات لم يعد هدفا فلسفيا نظريا, بل فرع علمي من فروع علم النفس الاجتماعي وتطبيقاته السياسية. المزيد من مقالات د. قدري حفني