بقدر سعادتي بالهبة الشعبية من أجل المواطنة والتسامح بين المسلمين والمسيحيين في مصر, بقدر تخوفي أن تكون اهتماما مؤقتا أو عارضا يرتبط بحادث, ثم سرعان ما ننساه ونهتم بموضوعات أخري, وكان رأيي دائما أن القضايا التي تتعلق بالوحدة الوطنية والانتماء الوطني يجب أن تظل هما مستمرا لنا نتعهده بالرعاية والاهتمام والمتابعة. فمنذ نحو عام وقعت جريمة نجع حمادي, ووقتها تبارت الأقلام وصدرت البيانات التي تدين الحادث وتبحث أسبابه, ثم انتهي الأمر. وفي هذه المرة كان الموضوع مختلفا وحدث تراشق بالألفاظ وتعديات علي العقائد واتهامات مباشرة أو مضمرة تتصل بالدين ومؤسساته, وكان ذلك مظهرا لحالة التربص والترصد, ولوجود شكوك ومخاوف متبادلة كامنة لدي بعض الفئات, ولوجود قوي منظمة تسعي إلي إشعال الفتنة والانقسام في المجتمع لأسباب سياسية أو دينية. وفي الحقيقة لابد أن نتوقف مليا أمام هذه النقطة الأخيرة, فمن هؤلاء الذين يصرون علي الاستمرار في إثارة موضوع ديانة السيدة كاميليا شحاتة؟ ومن هو المصور الذي التقط لها الصورة بالحجاب وأين؟ ومن الذي ينظم الوقفات والمظاهرات كل يوم جمعة عقب صلاة الجمعة في عدد من المساجد؟ وماهي مصلحة بعض الجرائد الخاصة والمواقع الإلكترونية مجهولة الهوية في التركيز علي هذا الموضوع, وعلي كل ما يثير الفرقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر؟ وأعتقد أنه لابد من وضع النقاط علي الحروف حتي لا يأتي يوم نندم فيه علي أننا لم نقف وقفة حاسمة أمام دعاة الفتنة. 1 علي كل الأحزاب والقوي السياسية إعلان موقفها تجاه موضوع المواطنة, وكونه أساسا لنظام الحكم في بلادنا, وخصوصا المنتسبين إلي تيار الإخوان, ولا يكفي هنا القول العام إن الإسلام يحترم الأديان الأخري, أو يدعو إلي التسامح, فهذا الحديث العام الذي نؤمن به جميعا ليس ردا كافيا, ولأن الموضوع ليس موقف الإسلام, وإنما موقف قوي سياسية واجتماعية بعينها تنسب نفسها إلي الإسلام. 2 علينا أن نعرف موقف الأحزاب والقوي السياسية من ثوابت الهوية والانتماء, وهل تمثل الوطنية المصرية دائرة الانتماء الرئيسية والإطار المباشر للولاء السياسي للمصريين, أم هناك أطرا أخري للولاء تسبق الانتماء للوطن المصري؟ هل الأولوية مازالت لشعار مصر للمصريين الذي رفعته ثورة عرابي والشيخ عبدالله النديم وظل رائدا للحركة الوطنية لعقود طويلة, أم أن هناك تعريفات أخري لمصر. 3 وعلي الأحزاب والقوي السياسية أن تكشف عن موقفها من ثوابت الدولة والنظام السياسي, كما تبلورت في مصر الحديثة من عهد محمد علي باشا وحتي اليوم التي تتمثل في مؤسسات دستورية مدنية وحقوق متساوية لكل المصريين, وأن مصدر الشرعية السياسية هو الدستور والقانون. ومرة أخري نجد التباسات وغموضا في مواقف التيارات العاملة في المجال السياسي باسم الدين. 4 علينا أن نميز بوضوح بين التدين من ناحية, وتوظيف الدين لأغراض الوصول إلي الحكم أو تحقيق أهداف سياسية من ناحية أخري. التدين الصحيح أمر محبب إلي القلب والنفس ويؤدي إلي الاستقامة في الخلق والسلوك, وإلي التمسك بفضائل الأمور, أما توظيف الدين لأغراض سياسية فهو أمر مختلف تماما يضر بالدين والسياسة علي حد سواء. 5 وبالمنطق والتوجه نفسه, فإن الآباء والكهنة المسيحيين ليسوا رجال سياسة, وينبغي ألا يكونوا كذلك, والمصريون المسيحيون يتوزعون علي كل الأحزاب السياسية. حزب الأغلبية وأحزاب المعارضة, وليس صحيحا أن كل المسيحيين المصريين لهم الرأي السياسي نفسه, أو الانتماء الحزبي, وهذا هو الأمر الطبيعي في نظام ديمقراطي, حيث يتوزع مواطنوه بين الأحزاب السياسية بغض النظر عن الانتماء الديني. 6 هناك قنوات تليفزيونية خاصة تسمي نفسها القنوات الدينية, عدد كبير منها مملوك لغير المصريين, وهناك أيضا عدد من القنوات المسيحية التابعة للكنيسة والخاصة, ولا بأس من هذا وذاك إذا كان الهدف هو شرح تعاليم الدين وتوضيحه بأساليب جذابة لمعتنقيه, ولكن عندما يخرج الأمر عن ذلك إلي التعرض لمعتقدات الآخرين والاستهزاء بها فإنه يعد أمرا مرفوضا, ويصبح من حق وواجب الهيئات المعنية استخدام سلطاتها لإغلاق أي قناة تخالف شروط الترخيص الممنوح لها, فليس من حق هذه القنوات أن تناقش معتقدات الأديان الأخري وتشكك فيها, أو أن تناقش القضايا السياسية والجدل القائم بين الأحزاب, وفي الرأي العام, وتتبني موقفا تزعم أنه موقف الدين في هذا الشأن, فالمواقف السياسية متغيرة بطبيعتها وهي محل اجتهاد ونظر, وصواب وخطأ, وليس من المصلحة وصف أي من هذه المواقف بأنها موقف الدين. 7 وهناك أيضا صحف خاصة تسعي إلي شد الانتباه, أو ربما دفعتها مصلحة هنا أو هناك إلي اللعب علي أوتار الاختلاف الديني, فتقوم بإبراز الأحداث ذات الطابع الطائفي بشكل يفوق حجم الحدث, ويبدو الأمر وكأن هناك من ينفخ في الهشيم لتندلع النار من جديد. 8 هناك متطرفون ومتعصبون في كل الديانات وفي كل الأوقات.. هناك من يفتت ويزرع الفتنة, وهذا أمر طبيعي ولكن الأمر غير الطبيعي أن تتنافس البرامج التليفزيونية علي استضافة هذه الأصوات, أو تفتح الصحف أبوابها واسعة أمامهم. لقد اتخذ المجلس الأعلي للصحافة ومجلس نقابة الصحفيين مواقف واضحة بهذا الشأن, واتخذ وزير الإعلام قرارات بوقف عدد من القنوات التليفزيونية المخالفة, وأصدر الحزب الوطني بيانا, والمطلوب أن يستمر هذا التوجه, وأن يتم فرز المواقف, فالموضوع لم يعد يحتمل صمتا أو انتظارا أو مسكا للعصا من الوسط, والخيار الواضح أمامنا هو إما دولة المواطنة والمساواة, أو دولة التمييز والفتنة, والدول التي أخذت بالخيار الأول سارت علي طريق الديمقراطية والعدل الاجتماعي, أما التي انزلقت إلي الثاني فكان مصيرها الانقسام والتفتت, والنماذج من حولنا عديدة.