عمل الرئيسان جمال عبد الناصر ثم أنور السادات علي إعداد مصر لخوض حرب تحرير, حيث تأكد لكليهما أنه لم يكن ثمة مفر من خوض غمارها, مع استثمارها سياسيا, سواء لإزالة جميع آثار العدوان الاسرائيلي كما استهدف الأول. أو لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لسيناء كما تمكن الثاني. ورغم هذا, فقد كان الفارق جوهريا في نهج إدارة كليهما لسياسات مصر الخارجية والداخلية, في فترة ما بين إنكسار يونيو وإنتصار أكتوبر. وهكذا, علي نقيض خلفه, قاد السادات تحولا استراتيجيا بعد أن تحرر من النهج التاريخي لسلفه, فصار السلام مع اسرائيل خيارا استراتيجيا, وهو ما يتبين ليس فقط من إدارته للتحولات في السياسات الخارجية والداخلية بعد أن سكتت مدافع أكتوبر, خاصة بتسليمه بأن99% من أوراق الحل السلمي بيد الولاياتالمتحدة, بل ومن مراجعته لسياسات سلفه في سنوات إعداده للحرب. ولنتذكر, أن استشراف عبد الناصر لفرص التسوية السلمية كان تراجعا تكتيكيا حين قبل القرار242, ثم مناورة مؤقتة حين قبل مبادرة روجرز لإثبات استحالة الحل السلمي, ولم تتعد مراجعته للسياسات الخارجية والداخلية تنويعا لأساليب الصراع مع الولاياتالمتحدة ومع اسرائيل, اللتين استهدفتا الإطاحة به وبكل ما يمثله. وفي محاولة السادات لتجنب خيار الحرب, قاد عملية رسم خريطة جديدة للعلاقات الدولية والعربية لمصر, رآها ضرورية لصنع السلام بعد الحرب, التي حاول تجنبها بشتي السبل. وأعترف هنا أيضا أنني لم أستوعب معني شجاعة السادات في اتخاذ قرار الحرب ولم أتفهم الضرورات التي أملت عليه مراجعة سياسات عبد الناصر إلا بعد قراءة' كتاب أكتوبر73: السلاح والسياسة' الموثق للأستاذ محمد حسنين هيكل, وهو آخر من يمكن اتهامه بالإنحياز للسادات. وبايجاز, فقد قام السادات بما كان ضروريا لحماية تماسك الجبهة الداخلية وإعداد القوات المسلحة للحرب, وإدارة العلاقات مع الاتحاد السوفيتي بما يقلص مخاطر وفاقه مع الولاياتالمتحدة علي توازن القوي وقرار الحرب, واستنفاد جميع فرص الحل السلمي عبر الوساطة الأمريكية, وتوسيع فرص العمل العربي المشترك خاصة مع السعودية, وذلك علي الطريق الي خوض حرب أكتوبر باعتبارها سبيل السلام. وأسجل أولا, أن حركة التصحيح ضد مراكز القوي بقيادة السادات في مايو1971, كانت ضرورة لحماية وحدة الجبهة الداخلية ووحدة القيادة السياسية, في مواجهة مخاطر الصراع علي قمة السلطة السياسية بعد وفاة الرئيس عبد الناصر. ثم كان قرار تعيين المشير أحمد إسماعيل وزيرا للحربية بدلا من الفريق محمد صادق, والتغيير المرتبط بهذا في قيادة القوات المسلحة, ضرورة أيضا لحماية تماسكها حول الرؤية الإستراتيجية للحرب المحدودة والممكنة وفقا لرؤية القيادة السياسية. والأهم, أن الإعداد السياسي لحرب أكتوبر, الذي إنطلق من إصرار الشعب المصري وقواته المسلحة علي خوض الحرب باعتبارها حتمية لا بديل عنها لتحرير التراب الوطني واسترداد الكرامة الوطنية, قد واجه مخاطر تفكك الجبهة الداخلية وإنفلات السيطرة علي القوات المسلحة, تحت الضغوط النفسية التي تولدت عن استمرار الإحتلال الاسرائيلي وتمديد وقف إطلاق النار. وقد نجح السادات, بعد استنفاد كل فرص الحل السلمي, في إعداد الجبهة الداخلية والقوات المسلحة لخوض حرب التحرير. ورغم مرونة الرئيس عبد الناصر في قمة الخرطوم وتجميده للصراع مع السعودية, فقد بقي موقفه الإيديولوجي الثابت, نحو القومية العربية والتوجه الاشتراكي ومحاربة الاستعمار, قيودا علي تعزيز وحدة الصف العربي من أجل إزالة آثار العدوان. وقد بدأت وساطات شارك فيها الأصدقاء التقليديون للولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدمتهم السعودية وإيران, كما نجح السادات في تعزيز العلاقات مع سوريا, علي طريق الإعداد لما تستلزمه حرب التحرير المرتقبة من تنسيق عسكري مع سوريا, إضافة الي استخدام سلاح البترول بقيادة السعودية, وهو ما حدث بالفعل خلال حرب أكتوبر المجيدة. وعلي طريق الإعداد لحرب أكتوبر, اتجه السادات الي إدارة جديدة للعلاقات مع الاتحاد السوفيتي. ففي سياق قيادة مصر لحركة التحرر الوطني وحركة القومية العربية وخيار التوجه الاشتراكي, كان عبد الناصر يري في الاتحاد السوفيتي شريكا استراتيجيا ثابتا, وإن بقي حريصا علي أن تبقي العلاقات مرتكزة الي الندية والشراكة والاتفاق والإختلاف. وفي المقابل رأي السادات في الاتحاد السوفيتي صديقا تكتيكيا مؤقتا, تفرضه الضرورة العملية وحتمية حرب التحرير, وذلك في سياق توجهه الاستراتيجي لإنهاء الصراع مع الولاياتالمتحدة, وإعلاء المصلحة الوطنية المصرية وخلع رداء زعامة القومية العربية, والإنفتاح علي خصوم سلفه اجتماعيا وأيديولوجيا وسياسيا. وقد واجه السادات, وبصبر, تعنتا في وفاء الاتحاد السوفيتي بتعهداته بتوريد الاحتياجات العسكرية الضرورية لخوض حرب التحرير, مع قبوله بما سمي' الاسترخاء العسكري' في الشرق الأوسط في سياق مساومات سياسة' الإنفراج' مع الولاياتالمتحدة, وشكوكه في توجهات السادات, وهواجسه بشأن قدرة القوات المسلحة المصرية علي النصر في الحرب. ورغم وجاهة النقد بأن السادات لم يساوم بقرار اخراجه للخبراء العسكريين السوفيت, فقد كان القرار منطقيا بعد انتهاء تدريب القوات المسلحة المصرية علي الأسلحة الجديدة, وضمانا لاستقلال القرار المصري بالحرب, وتهدئة للرأي العام بالقوات المسلحة الغاضب من تقاعس الإتحاد السوفيتي وسلوك عديد من خبرائه. والمدهش حقا أن تدفق الأسلحة السوفيتية قد زاد بعد طرد خبرائه, وأقدم السادات علي إبرام معاهدة تكتيكية للصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي, من أجل قطع الطريق علي المزيد من تدهور العلاقات المصرية السوفيتية! وكان السادات مدركا لمخاطر شن حرب التحرير دون توفير الحد الأدني من الأسلحة اللازمة لخوضها, وكان يعرف شأن عبد الناصر أنه لا بديل من العون العسكري السوفيتي لإعادة بناء القوات المسلحة وخوض معركة التحرير, وكان السوفيت مع الزعيمين يدركان أن سقوط مصر خسارة استراتيجية سوفيتية في صراع الحرب الباردة المستمر رغم الوفاق. ورغم التردد والتباطؤ والضغوط والقصور, فان إمدادات الأسلحة السوفيتية لم يكن لها بديل, نوعا وسعرا ونظاما للتسليح, في مواجهة إمداد أمريكا لإسرائيل بأحدث ما في ترسانتها من سلاح, وكانت هي التي مكنت مصر من خوض حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر. وقد استهدف طرد الخبراء السوفيت ضمن ما استهدف توجيه رسالة إيجابية للولايات المتحدة تحقق هدفا استراتيجيا لها كي تتحرك بجدية نحو تسوية سلمية للأزمة. وتوسعت اتصالات مصر المباشرة مع الولاياتالمتحدة. لكن إعلان السادات في فبراير1971 استعداده لفتح قناة السويس مقابل تراجع قوات الاحتلال كخطوة نحو التسوية الشاملة, لم يجد صدي لدي الولاياتالمتحدة واسرائيل, طالما لم تحقق الأهداف الاستراتيجية المبيتة العدوان والاحتلال. وواصلت الولاياتالمتحدة انحيازها المطلق لإسرائيل, وربطت تحركها للتسوية السلمية بتنازلات مصرية وعربية كان من المستحيل علي الرئيس السادات شأن أي زعيم وطني أن يقبل بها قبل تغيير توازن القوي الإقليمي بعمل عسكري يزعزع نظرية الأمن الإسرائيلي, وهو ما تحقق بعبور أكتوبر والضربة الجوية, وإثباتهما أن التوسع لا يحقق أمن إسرائيل, وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها! [email protected] المزيد من مقالات د. طه عبد العليم