جاءت حرب أكتوبر لتضع حدا لهذا التحدي الحضاري الذي واجهته الأمة العربية بعد67, وتفتح الباب أمام عصر حضاري جديد للعرب تعتبر حرب أكتوبر المجيدة أغلي هدية قدمها جيش مصر الباسل للشعب المصري منذ فجر التاريخ وحتي وقتنا, وذلك بدفاعه المجيد عن تراب الوطن وكيانه الحضاري, فقد برهن الجنود المصريون خلال الحرب علي انهم خير اجناد الارض, واعادوا البريق الساطع لمصر, حيث ان الحرب لم تنقذ مصر والامة العربية من نكسة حربية فحسب, ولكن أقالتها ايضا من نكسة حضارية, في وقت اصبح فيه الخطر الحقيقي علي اي امة, ان تتعثر خطواتها في الخروج من دائرة التخلف, او ان تقوم في العالم علاقات حضارية غير متكافئة, تزيد الاقوياء قوة, والضعفاء ضعفا. وكان اخطر ما واجهته مصر والامة العربية بعد نكسة67 هو اكتشاف جوانب في تلك الكارثة, ترجع الي بقايا مراحل التخلف الحضاري, والتي جاءت وليدة رواسب الماضي, وما صاحبها, من مؤامرات الاستعمار والصهيونية علي مسيرة التقدم العربي وجهاده واندفع المصريون والعرب للبحث عن أسباب النكسة, وجاءت اول الاسباب, وهي اهمية العلم في ادوات القتال واجهزة الدولة, باعتبارهما مظهرين من مظاهر الحضارة, او نتاجا من منجزات الحضارة, وانتهي الامر بالباحثين الي اعادة تقويم الحضارة. برغم انتصارهم في67 عادت الحضارة العربية للازدهار, لان تلك الخسارة كفيلة بهدم كل انتصار حربي يحصلون عليه, وكشف عن هذه الحقيقة( مناجم بيجين) حين قال للإسرائيليين: ينبغي الا تستكين اسرائيلكم حتي تقتلوا اعداءكم, ولا تأخذوا بهم شفقة حتي تدمروا الحضارة العربية, ونقيم حضارتنا علي اطلالها.. وعزز( ايجال الون) هذا القول حين قال: من الجوهري لتحقيق السلام انتزاع الامل الواهم في النصر من عقول العرب مرة وإلي الابد, وعادت( جولدا مائير) الي تأييد هذه النظرة الإسرائيلية, حيث قالت: ان الحدود الامنة التي يمكن الدفاع عنها وبسهولة هي عبارة عن الحظ الذي يمكننا من جعل العرب يتنازلون عن الرغبة في استئناف الحرب. وكان الرد المصري علي كل هذه العبارات الفارغة قويا ومدويا, ونزل عليهم كالصاعقة, حيث جاءت حرب اكتوبر المجيدة, وأسكتت جميع الالسنة الإسرائيلية المتغطرسة, وقلبت جميع موازين القوي في المنطقة, وكانت هذه المعركة ليست حربية فقط, ولكنها حضارية ايضا واستطاعت هذه الملحمة ان تدفع بالامة العربية الي تجاوز ما كانت تعانيه من معالم التخلف الحضاري علي اختلاف اشكاله وصوره وكان من اهم اثار حرب اكتوبر في هذا المجال: أولا: اجتياز التخلف العلمي والتكنولوجي, وكانت هذه اول نقطة في تجاوز التخلف الحضاري للامة العربية, والترجمة العملية والفورية لما راود تلك الامة من آمال وما بذلته من محاولات في هذا الميدان منذ قيام نهضتها في مطالع العصر الحديث, بحيث تخلصت الامة العربية مما سادها فور وقوع نكسة67 من وهم التفوق التكنولوجي للعدو, وانه السبب فيما تحقق له من نصر وادركت ان الصراع الدائر بينهما ليس صراعا حربيا فحسب, لكنه صراع حضاري ايضا تمثل فيه اسرائيل استمرارا للحضارة الغربية, التي سبق ان تصدت لها الامة العربية وحالت بينها واجهاض ما حققته من تقدم علمي. تمكن المقاتل المصري ان يقفز بالامة العربية ككل من القرون الوسطي الي القرن العشرين واثبت ان المصريين قادرون علي استيعاب العصر ومعداته وبصورة تنتزع الاعجاب والتقدير, وتجلي ذلك في جهود الجيش المصري حين اظهر من الابتكارات العلمية ما وضع حدا للتخلف الحضاري الذي اعتمدت عليه إسرائيل في فرض سطوتها علي العرب. ثانيا: كسر التحدي الحضاري, حيث حاصر التحدي الحضاري الامة من مطالع نهضتها في العصر الحديث واستحكمت حلقاته حول كيانها الحضاري, مع وقوع نكسة67 واتخذ التحدي الحضاري مع التخلف العلمي والتكنولوجي, للامة العربية دليلا علي عجزها القطري عن الاخذ باسباب التقدم, وانها لايمكن ان ترقي الي مصاف الامم الكبري المعاصرة لها, فلقد اوجد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء حاجزا يحول بين الامة العربية في المشرق ومد يد المساعدة للمغرب, فضلا عن فرض حصار محكم علي باب مصر الشرقي, وتبلور الهدف الإسرائيلي في العمل علي ايجاد حواجز فكرية, وثقافية مصطنعة من شأنها تعميق رواسب الماضي في البلاد العربية, والابقاء عليها في حالة الركود الحضاري, وفصل الامة العربية في حاضرها عن جذورها التاريخية, والتي تستمد منها مقوماتها, وشخصيتها, والترويج للادعاء القائل بوجود تفوق حضاري لليهود علي العرب. وجاءت حرب اكتوبر لتضع حدا لهذا التحدي الحضاري الذي واجهته الامة العربية بعد67, وتفتح الباب امام عصر حضاري جديد للعرب قائم علي الاخذ باسباب التقدم في العالم وحضارته العصرية الرائع, اذ هدمت حرب اكتوبر دعائم التحدي الحضاري للعدو القائم علي تلك الادعاءات الثلاثة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر, ودولة إسرائيل الديمقراطية الجديدة وواحة المدنية وسط صحراء التخلف.