غادرنا مسكن فاروق عبد القادر وذهب إلي حاله, وفي طريقي إلي المقطم رحت أفكر كيف ترك نفسه بعد جلطة المخ التي أصابته دون أن يذهب إلي الطبيب, وكيف ساءت حالته فجأة إلي هذا الحد, حتي مسكنه الذي غادرناه توا والذي زرته قبل أكثر من ثلاثين عاما, أتيت إليه اليوم وأنا أتصوره بيتا صغيرا من الحجر ومكونا من دورين أو ثلاثة وله نوافذ طويلة ونحيلة وشرفات تعلو الواجهة وعند فاروق واحدة وقفنا ندخن ونطل منها علي ميدان صغير في منطقة منية السيرج. (1) وكيف أنني ما أن وصلت حتي وجدت أن لا حجر هناك والبيت لا ملامح له وليست به شرفات ولونه أصفر مبقع والسلم معتم, والصالة ضيقة وشبه متربة. ولم أعرف من أين جاءت صورة البيت الجميلة هذه واستقرت بداخلي طوال هذه السنوات, ثم تذكرت صوت السيدة التي لاحقتنا ونحن نطلع السلم: انتم طالعين عند الاستاذ والنبي تطمنونا عليه. (2) كانت الاتصالات شبه يومية بيني وصديقنا المشترك كمال رمزي الذي كان بدوره علي علاقة بالدكتور حسين عبد القادر, أحد أقرب الناس إلي فاروق, وبدأت المعلومات تتجمع, لقد انصرفنا فاروق ونحن علي ثقة من أن الرعاية الطبية الجيدة سوف تؤدي إلي استقرار حالته إن لم تؤد إلي تحسنها, المرأة الشعبية التي تقوم علي خدمته تتقاضي ثمانين جنيها كل يوم غير بقية المصروفات, لاتبدو مؤهلة لمثل هذه الرعاية وكنت سألتها ونحن جلوس بالصالة: يا تري إيه أخبار العلاج؟ وهي قالت بينما تمر إلي جوار كتفي: بياخده جرت محاولات أولية مع اتحاد الكتاب للبحث عن مستشفي لرعايته وسمعنا أن عدم تمتعه بعضوية هذا الاتحاد وقف حائلا دون ذلك, وكان هذا الخبر مدعاة لحيرة من يرون أن الغالبية العظمي ممن يتمتعون بهذه العضوية, والحق يقال, لاعلاقة لهم بالكتابة سواء كانت هذه العلاقة من هنا أو أنها كانت من هناك. ثم امكن إلحاقه بدار للمسنين بالحي الخامس في مدينة نصر. (3) قامت هالة البدري مع الكاتبة هناء عطية بزيارته في دار المسنين هذه, وهناء التي عادت يائسة من عنده نصحتني بألا أذهب وأراه في هذه الحالة. وكنت أعد وسعيد الكفراوي للذهاب عندما عرفت أن فاروق, فضلا عن شلله النصفي, انزلق ووقع علي رأسه وأصيب بنزيف داخلي وصار إلي غيبوبة كاملة, وأنه يرقد في مستشفي الدمرداش الحكومي بقامته النحيلة وشعره الأبيض المنكوش ولحيته الطويلة فريسة لدي قرح الفراش التي راحت تتآكله. (4) في بغداد الثمانينيات غادرت حجرة فندقي واتجهت إلي حجرته المجاورة قبل أن افتح حقيبتي, كان واقفا بوسطه الممتلئ أمام الدولاب المفتوح يتطلع بنوع من الاطمئنان إلي ثيابه المهيأة. في الضلفة الطويلة ثلاث بدل معلقة غير التي يرتديها وإلي جوارها عدد من الكرافتات المدلاة, وفي الجانب الآخر كان صف من عشرة قمصان علي الأقل مكوية ومرصوصة, ورف مملؤ بكومة من ثيابه الداخلية البيضاء إلي جوارها كومة أخري من جواربه الملونة, وهو نظر إليها نظرة إجمالية وقال: إيه رأيك كفاية؟ قلت إن خبرة السفر علمت الواحد ألا يثقل حقيبته, لأنه لن يستخدم إلا اقل الثياب, ولكنه ظل علي ابتسامته وخرجنا. (5) كنت أمشي في المقطم واتساءل عن الاوضاع التي تواطأت علي التنكيل به إلي هذا الحد مع أنه لم يفعل طول عمره سوي قراءة الكتب دون توقف والتعبير فيها عن رأيه الذي احتمل الخطأ والصواب؟ ثم أنه كان معنيا بارتداء القمصان المكوية, صحيح أن أحذيته باتت قديمة إلا أنها ظلت لامعة طيلة الوقت, فكرت في كل هذه الأمور وجلست.