كان كوب توزيع عجينة الكنافة السائلة يرسم نفسه كدائرة يتسرسب منه الدقيق المبلل علي السطح الساخن لصينية موضوعة علي موقد مشتعل, وكان التاريخ هو العاشر من رمضان السادس من أكتوبر وكان شارع القصر العيني في الواحدة والنصف ظهرا يكتظ بوجوه يعلوها غضب مكتوم, ليس بسبب الصيام بل بسبب الإحساس بطول المسافة الزمنية بين الوعد باسترداد سيناء وبين تنفيذ هذا الوعد, وعلي الوجوه التي تزحم الشارع يمكنك ان تري ظلالا لملامح الأخوة والأبناء الذين تعلموا ثم التحقوا بالقوات المسلحة ليكونوا ضمن جيش المليون مقاتل متعلم ومثقف وموكول إليهم حلم تحرير التراب الوطني وضمن الوجوه أيضا يمكنك ان تري ظلالا لملامح بعض ممن استشهد لهم قريب أو صديق. عن نفسي كان قلبي يرفرف دائما بحزن غائر علي شقيق زوجتي الشاب الذي كان علي وشك الزفاف بمن أحبها ولكن جاءني في مارس من نفس العام نبأ استشهاده. وكان صوت ابني الذي يقترب من عامه الرابع معي علي الهاتف قبل ان أنزل من روز اليوسف حيث اعمل الي الشارع وكان يسأل عن وعدي له بأني سأعود اليوم ومعي جهاز تليفزيون وكان في الجيب أول مائتي جنيه تدخل جيبي من مجلة صباح الخير وقد قررها لي من يفتش في أعماق كل محرر أو رسام أو كاتب عن موهبته وهو الفنان حسن فؤاد مؤسس الشكل الفني لمجلة صباح الخير, أما سبب المكافأة فهو إعداد ونشر مذكرات الفنان عبدالحليم حافظ والتي رفعت توزيع المجلة إلي آفاق غير مسبوقة فعبدالحليم هو صوت هذا الحلم البازغ من فجر23 يوليو عام1952 وحكايته هي حكاية طفل الملجأ المزدحم بالحلم والموهبة والألم وكنت قد قضيت قرابة التسع سنوات اسمع اعترافاته واحزانه وافراحه واسجلها محتفظا بمسافة بين الانغماس في حياة أهل القمة التي يعيش فيها عبدالحليم وبين حياتي كشاب مهمته مع هذا الفنان ان يرصد فقط رحلته الي الصعود, وكان عبدالحليم يملك العديد من احزانه التي لا علاج لها, حزن افتقاد الأم بعد الميلاد ثم حزن انكسار ما غني له عبر سنوات الثورة, ولم يفته الغناء من كلمات عبدالرحمن الأبنودي بعد الهزيمة الشاسعة الأرجاء عام1967 عدي النهار والمغربية جاية تتخفي ورا ورق الشجر وعلشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر إلي ان يقسم بأن بلدنا للنهار لأنها تحب موال النهار. وبينما أرقب صانع الكنافة الموجود علي ناصية محل بيع اجهزة التليفزيون جاء البيان الأول لعبور الجنود لأفاجأ بأن ملامح الناس قد تغيرت فالضجيج الزاعق كشف عن الشعب السري الذي يعيش تحت بشرة أي منا هذا الزحام علي محطات الاتوبيس انتظم فجأة هذا التكالب علي التاكسيات في مثل هذا الوقت قد بدا منتظما ولم يأخذ أحد مكان أحد في أي تاكسي يتوقف لعدد من الأيادي التي تشير اليه, اشتريت التليفزيون وبينما وأنا أدفع للرجل ثمنه خيرني بأن ادفع جنيهين بإيصال كرسم يصل الي خزينة الدولة مشاركة من أي صاحب تليفزيون جديد وبين ألا أدفع, أجبته علي الفور حق الدولة يجب ان يذهب إليها وفور وصولي الي البيت جاءني صوت عبدالحليم حافظ عبر التليفون ليحكي عن خطاب وصله صباح اليوم بواسطة الصليب الأحمر من أسير فلسطيني في سجن غزة يطلب فيه ان يغني في أقرب مناسبة أغنية المسيح التي غناها علي مسرح الألبرت هول من أجل تحرير الأرض وان هذا الخطاب هو ما سنفتتح به الحلقة الجديدة من مذكراته. وبعد تشغيل التليفزيون الجديد جاء صوت المعلم والممثل محمد رضا وهو يغني محمد افندي رفعنا العلم وطولت رأسنا ما بين الأمم وظلت هذه الأغنية المفضلة عند ابني الطفل الي الدرجة التي جعلتها أول رجاء يطلبه من عبدالحليم عندما جاء لزيارتنا في المنزل ومعه استاذي الشاعر صلاح عبدالصبور, هنا قال عبدالحليم للابن سأغني أغنية أخذت مطلعها من مانشيت الأهرام كتبه الأستاذ هيكل: عاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب, وهنا قال الشاعر صلاح عبدالصبور العبور تم بناء علي ضوء ما حدث في هزيمة1967 فالصحبة التي اسند إليها جمال عبدالناصر أمر القتال كانت تفهم في الأمن أكثر مما تفهم في الحرب, وعندما تغيرت الصحبة وجاء الفريق فوزي ومعه عبدالمنعم رياض تغير الموقف, وعندما تولي أنور السادات القيادة دقق كثيرا في قدرة المحترفين للقتال فاختار أكثرهم كفاءة ولذلك ظهرت وجوه المقاتلين القادرين علي التضحية واسترداد الأرض, وراح الشاعر الكبير يؤكد ان الصحبة هي التي تنير طريق أي إنسان وأي مجتمع, الصحبة هي التي تصنع مزاج التقدم أو تدفع إلي الترنح في التخلف. ولم يكن عبدالحليم قادرا علي السير في مجال المناقشة إلي نهايته فقد كان علي موعد لتسجيل عاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب وظل صلاح عبدالصبور يشرح معني الصحبة لإبني الصغير الذي لم يتعد عمره اربع سنوات وعندما قلت لأستاذي أليس هذا الكلام أكبر من قدرة طفل علي الاستيعاب؟ أجابني وهل نسيت ما قاله لك أستاذك في الفلسفة بجامعة الإسكندرية د.محمد ثابت الفندي من ان عمر الرابعة هو أنسب الأعمار لاستيعاب الأفكار البسيطة والكبيرة؟ إن الطفل عندما يتعرف علي معني الصحبة يمكنه ان يختار في شبابه من يعطيهم وقتا فيضيفوا له علما ونضجا بدلا من ان يختار من يسرقون وقته بلهو يسرق العمر. واضاف الشاعر الكبير هانحن بعبور القناة نسترد بعضا من عمرنا المفقود لنصنع مستقبلا مختلفا.