لي حلم يقظة بسيط وهو أن نستعيد جميعا هذا الشجن العارم الذي عاشه أبناء جيلي منذ الساعة الثانية تماما من ظهر العاشر من رمضان في عام 1973. أتذكر أني غادرت مكتبي في الواحدة والنصف، وكنت سأشتري في هذا اليوم تلفزيونا من محل أدوات منزلية بجانب روزاليوسف، وخيرني صاحب المحل بين ان أدفع جنيهين زيادة علي الثمن، كضريبة قررتها الدولة، أو أن آخذ التلفزيون وأذهب إلي المنزل مباشرة. قلت له: وكيف ستصرف الحكومة علي التلفزيون؟ فأجابني بالقول المصري الشهير "قول ياباسط"، وأصررت ان ادفع الجنيهين، قائلا: إن السرقة تفسد الصيام فأجاب الرجل ضاحكا: معني ذلك ان صيامي ضاع منذ سنوات. ثم جاء نبأ البيان الاول للعبور، ورأينا معا كيف تبخر الارتباك والضجيج من شارع قصر العيني، وأخذت التلفزيون في تاكسي إلي المنزل، وبدأنا نسمع بيانات القتال. وصرفت زوجتي البقال الذي جاء يعرض عليها كمية من السكر والأرز، خوفا من ندرة مواد الطعام، وقالت له بصوت واضح: "الذي سيجري علي كل المصريين سيجري علينا" ودار ابني الذي كان في الثالثة من العمر في المنزل وهو يركب يد مكنسة مغنيا: "محمد أفندي رفعنا العلم وطولت راسنا ما بين الأمم" وجاء عبدالفتاح سكرتير عبد الحليم حافظ ليقول لي: "الاستاذ عايزك في الاستديو"، وكان عبد الحليم يسجل أيامها حلقات المسلسل الإذاعي الوحيد "أرجوك لا تفهمني بسرعة" ووجدت عبدالحليم في الإذاعة يسجل أغنيات عن القتال. وكان هناك طبعا عبد الرحمن الأبنودي، ثم بليغ حمدي، ثم كمال الطويل وكنا جميعا نكتم الصور التي تراكمت في رءوسنا عن ايام يونية ،1967 ولم يكن احد منا يريد ان يذكر الآخر بما حدث، فقط قال كمال الطويل جملة واحدة "لن ألحن أي أغنية فيها إشادة بشخص محدد"، وتركنا ليلحن الاغنية الاساسية التي غنتها سعاد حسني من كلمات أحمد فؤاد نجم "دولا مين ودولا مين دولا ولاد الفلاحين". وتتبعنا إذاعات العالم كله، وكنا نشعر بالدهشة من الاخبار الواردة من إذاعة لندن، ولكن تأكد الانتصار بعد ساعات. وصار من حقنا ان نرفع الاحساس بالخجل عن اعماقنا، فقد عشنا من قبل سنوات مع حرب الاستنزاف، ورأينا البطولات وهي مكتومة الصوت، فكان منا من يعرف أخبار حرب الاستنزاف من المقاتلين وكان منا من لا يعرف. ولكن الجميع في السادس من اكتوبر عرف الحقيقة الاساسية، وهي ان الحرب المنتصرة تتأكد كل يوم. وكنت بالنسبة للجميع "فرخة بكشك" لأن صديقي هو العميد عدلي شريف المسئول المصري عن الصليب الاحمر، وعمله كان يتيح له معرفة أخبار القتال. أيام صاغ فيها المصري الكون كله من جديد بل أخذت العلوم العسكرية تطورا بالغا بعد تلك الحرب. حلم اليقظة هو ان نستعيد تلك الروح وان نترك الترهل الجاثم فوق الصدور وفي أسلوب العمل. يارب.