نحن لا نعرف تحديدا متي ولدت اسطورة إيزيس وأوزوريس التي تجسد الصراع بين الخير ممثلا في أوزير الملك الصالح وابنه الشرعي حورس, وبين الشر ممثلا في الإله ست.. والذي دفعه شره وحقده علي أخيه أوزير إلي أن يقتله.. بل ويمثل بجثته ويقطعها إربا, ثم يحاول أيضا قتل ابن أوزير الشرعي حورس! وإلي جانب الخير والشر وإعلاء قيمة الخير في المجتمع من الحكم إلي المعاملات بين الأفراد إلي الوفاء الذي جسدته أيزيس زوجة أوزير وأم حورس.. هذه, القيم هي التي قامت علي ركائزها الحضارة المصرية القديمة, وكان المجتمع المصري يعلي دائما قيمة الخير والوفاء ويحارب الشر والحقد والغيرة والخيانة. الآن أنظر إلي حال المصريين وأجد تغيرا غريبا للأسف ليس للأفضل, وأخشي أن أقول إن المجتمع المصري في سبيله إلي أن يتحول إلي مجتمع نصف الكوب الفارغ, أي أن شبابنا لم يعد متفائلا بالمستقبل, بل لم يعد ير سوي كل ما هو سييء.. أري ذلك واضحا من تعليقات المصريين علي الأخبار المنشورة علي شبكة الإنترنت, وواضح أن هناك عدم ثقة وصل إلي حد العداء بين الناس بمختلف طبقاتهم وبين الحكومة, وصار هناك جدار ضخم بين الناس والمسئولين في الحكومة, وإذا وقع خطأ أو مشكلة حدثت في أي جهة, حكومية.. نري بين الناس حالة من التشفي في المسئول عن هذه الجهة, حتي إن كان الخطأ نتيجة موظف مهمل متكاسل.. سيقول البعض: ومن جاء بهذا الموظف المهمل المتكاسل؟ وأنا لا أريد هنا مناقشة قد لا تؤدي إلي شيء مفيد, لكن علينا أن نعي أن كل مسئول الآن لديه تركة هائلة ورثها من مشكلات متراكمة ظللنا نرمم فيها إلي أن انفجرت في وجوهنا, وأصبحنا نواجه تضخما عدديا وكيفيا في الجهاز الإداري للحكومة, وعندما جاء من يحاول الاصلاح وعلاج المشكلة بحلول جذرية, ظهرت الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي أصابت القاعدة العريضة من المجتمع المصري, والتي تسير جنبا إلي جنب مع آثار الاصلاح الاقتصادي الموجود الآن. ويتعجب الناس كيف نقول اصلاحا اقتصاديا, وهناك غلاء في كل شيء المأكل والملبس والمشرب والمسكن؟ وردا علي هؤلاء أقول لهم: اقرأوا تاريخ الأمم.. ولن نذهب بعيدا, وإنما نضرب المثل بدولة مثل ألمانيا, فبعد الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك مصنع قائم أو جهاز يعمل, ومع ذلك بدأوا من الصفر وظلوا طوال أربعة عقود من الزمان يعيشون علي الكفاف إلي أن بنوا بلدا. لكم أتمني هنا أن ننظر إلي الأشياء الجميلة, والايجابيات كثيرة من حولنا لكي نمحو حالة الاكتئاب من نفوسنا, وعلينا أن نتكاتف لنحل مشكلات شبابنا, ونخفف عنهم وطأة الحياة, فهذا واجبنا نحوهم.. فليس من العدل أن يتحملوا هم وحدهم ضريبة الإصلاح.. فلنوفر لهم تعليما جيدا, وتدريبا وتأهيلا عمليا ينفعهم عندما ينزلون إلي سوق العمل, أري أن أساس مشاكلنا مادية أكثر منها تربوية أو أخلاقية, وعندما تصبح المشكلة فقط مادية فهذا أمر يسير وسهل علاجه, ولا يدعوا إلي الاكتئاب والنظر فقط إلي نصف الكوب الفارغ! دفعني إلي الكتابة في هذا الموضوع ما رأيته علي الساحة من لغط حول موضوع سرقة لوحة الخشخاش, والأمر الذي أحزنني فعلا هو مشاعر الشماتة والتشفي التي ظهرت ضد وزير الثقافة فاروق حسني.., وكان من المتوقع أن تظهر مشاعر الغضب والسخط نتيجة سرقة لوحة فنية من كنوز متحف من متاحفنا, وبدلا من النظر إلي واقع المشكلة وحقيقتها بدأنا نوجه الاتهامات إلي فاروق حسني واختزلنا المشكلة كلها في تعطل كاميرات المتحف! مع العلم أنه فرضا لو أن جميع الكاميرات تعمل, وأن الموظف المراقب لها في غرفة المراقبة لم يؤد عمله, أو انشغل بقراءة الجرائد أو حتي المصحف في نهار رمضان, لكان حدوث الكارثة أمرا مؤكدا. كذلك ماذا لو أن المتحف يعتمد علي الحراسة البشرية وحدث خطأ من أحد الحراس أدي إلي سرقة اللوحة.. المشكلة يجب علاجها من خلال إعادة التأهيل سواء للمبني أو للعاملين فيه, وبالتأكيد حدث خطأ جسيم أدي إلي حدوث السرقة, وبالتأكيد كان السارق يعلم كل ما يتعلق بالمبني وإمكانات الحراسة, ولذلك تخير الوقت المناسب وفعل فعلته, وهو بذلك شخص علي دراية بالمتحف, وليس زائرا لأول مرة. دعوني أقول: إنه إذا كانت المسئولية الملقاة علي عاتق الوزير باعتبار منصبه وموقعه لا مناص منها, إلا أن هناك من هم مسئولين مباشرة عن المتحف, ويجب أن تتم مساءلتم وحسابهم, ولا يكفي عندما نتعامل مع كنوز فنية أو أثرية أن ننظر إلي مكاتبات إدارية بيروقراطية عقيمة, وإنما يجب أن يسأل كل موظف عما أتخذه من أفعال لعلاج مشكلة ما في موقعه, لا عما كتبه من مخاطبات عقيمة تلقي المسئولية علي من هم أعلي منه منصبا! أيها السادة نحن مازلنا نعاني أشد المعاناة من مركزية الإدارة, يجب أن تكون هناك مساحات من الحرية للتصرف, نعطيها لكل من هو مسئول, من أصغر موظف إلي أكبر موظف بالجهاز الإداري, كنت أتمني أن يتخذ أحد أمناء المتحف أو حتي مديره, بإغلاق القاعة التي تعطلت كاميراتها حتي إذا وصل الأمر إلي إغلاق المتحف كله.. كنت أتمني أن يتواجد فرد الأمن علي مدار ساعات الزيارة داخل القاعة التي لا تعمل كاميراتها, حتي لو استدعي الأمر أن ينصب أمناء ومديرو المتحف من أنفسهم أفرادا للأمن يتواجدون في كل قاعات المتحف إلي أن تنتهي ساعات الزيارة.. أتمني من كل العاملين في المتاحف اعتبار ما تحويه ملكا خاصا بهم يحافظون عليه مثلما يحافظون علي أنفسهم وممتلكاتهم! ليس معني حدوث خطأ في مكان ما أن الصورة كلها سوداء, هو نفسه فاروق حسني الذي افتتح قصورا للثقافة ومكتبات ومتاحف متنوعة في كل مكان علي أرض مصر, أصبحت منارات ثقافية نباهي بها العالم, كما أصبحت لدينا متاحف متخصصة, ومتاحف في كل مكان تليق بكنوز وتراث مصر. أصبح مشروع القاهرة التاريخية واقعا ملموسا أدعو كل المصريين إلي الذهاب إلي شارع المعز وما حوله ليروا علي أرض الواقع ما فعلته وزارة الثقافة من تطوير وإحياء لروح القاهرة القديمة, أصبح لدينا متحف للآثار الإسلامية يمثل تحفة معمارية ونموذجا مثاليا لمتحف آثار إسلامي, وقمنا بصرف ملايين الجنيهات علي تطوير المناطق الأثرية من الإسكندرية شمالا وحتي أسوان جنوبا, والزائر لأي منطقة أثرية يري ويلمس بعينه تغيرا جوهريا.. ومازلنا نعمل ونتعلم من أخطائنا.. وقبل كل شيء أن نعترف بها. للأسف الشديد انساقت معظم أجهزة الإعلام وراء مشاعر التشفي ولا أقول إنها أشعلتها داخل نفوس الناس, وما حدث من تغطية أجهزة الإعلام في معظمها لحادث سرقة زهرة الخشخاش, لم يكن بغرض توضيح الحقائق وملابسات الحادث, وما حدث من أخطاء أدت إليه, بقدر ما كان تعميق شعور التشفي وإلقاء اللوم علي وزير الثقافة. لماذا الإصرار دائما علي بث روح الاكتئاب ومشاعر الاحباط في نفوس الناس؟ لماذا النظر دائما إلي نصف الكوب الفارغ؟