علمتنا أدبيات الاستراتيجية بعض علامات الاسترشاد في علم التفاوض وأهمها: أن دخول ساحة التفاوض يلزم أن يكون من موقع القوة, وأن وضع المفاوض في المحادثات ينعكس سلبا وايجابا بوضعه علي ساحة المعركة وقت التفاوض. وتنوعت وجهات النظر في تفسير مصطلح الوضع علي ساحة المعركة, فالبعض فسرها علي أساس أنه يعكس الحالة القتالية والعسكرية تحديدا, والبعض الآخر ونحن منهم يري أن هذا المصطلح يندرج علي الوضع السياسي والاستراتيجي والذي يدخل فيه قدرة الدولة علي الصمود والتصدي لقلب وتعديل مواضع الأطراف, ويمكننا أن نقيس علي هذا المعيار الكثير من الحالات علي المستوي الدولي والإقليمي, إلا أننا سنركز علي مثال محدد وملموس عاصرناه, وهو العدوان الثلاثي علي مصر عام1956 والذي انتهي بكل الوضوح بفوز عسكري واضح للتحالف الثلاثي بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل, إلا أن محددات الوضع السياسي والاستراتيجي والتي لعب علي أساسها المخطط والمفاوض المصري كانت ترجح كفة الصمود والتصدي المصري للعديد من الاعتبارات: أولا: أن الدعم العربي لمصر كان دعما له وزنه وله دلالاته, كما أن استعادة مصر لسيطرتها علي قناة السويس قد عظم من وزن مصر الجيواستراتيجي. ثانيا:: أن موازين القوي في محيط منطقة الشرق الأوسط أخذت شكلا مختلفا, بعد أن بدأت الولاياتالمتحدة تخطط ليكون لها وضعا إقليميا متميزا خاصة في مناطق البترول استنادا لمبدأ أيزنهاور الذي ينادي بوجود فراغ استراتيجي في منطقة الخليج, وأن علي الولاياتالمتحدة أن تملأه. ثالثا: أن المخطط المصري بعد أن ضمن الصمود الشعبي في ردع التحرك العسكري الثلاثي في منطقة القنال والدلتا, تحول إلي الساحة الدولية, وهو يعلم أنه لن يوفق في الحصول علي قرار من مجلس الأمن بوقف العدوان والانسحاب إلي المواقع السابقة, إلا أنه كان قد استفاد من واقعة اقتحام الاتحاد السوفيتي للمجر عسكريا, واستخدامه حق الفيتو ضد قرار الإدانة, وإحالة الأمر إلي الجمعية العامة واستصدار قرار نافذ تحت بند الاتحاد من أجل السلام فخطط المفاوض المصري من أجل الحصول علي قرار مشابه بوقف العدوان الثلاثي وانسحاب المحتلين خارج الأراضي المصرية, وهو ما تم تحقيقه بالفعل, واعتبرت معركة السويس وساما علي صدر الزعامة السياسية والمخطط والمفاوض المصري. رابعا: إن أقوي أسلحة الردع في علم التفاوض هي قوة القيادة السياسية والتفاف الشعب حولها عن اقتناع. فإذا ما نظرنا إلي الوضع الفلسطيني علي ضوء هذا التأصيل لنظرية التفاوض في إطار قوة الموقف علي الساحة السياسية والاستراتيجية, ورسم تخطيط جيد لاستراتيجية التفاوض, ووجود قيادة سياسة يلتف حولها الشعب, وتوفر ما يمكن أن نطلق عليه الصمود الشعبي ضد قوي الاحتلال, لوجدنا أن نظرية التفاوض الفلسطيني خاوية من أي أساسيات لفنون التفاوض. فالمبدأ أن التفاوض يأتي كآخر مرحلة للاتفاق علي أساسيات التعامل خلال الفترة التي تتبع حالة الاختلاف حول وضع أو موقف أو حالة معينة, والخروج منها بنمط يمكن أن يطلق عليه التوصل إلي حل سلمي. ومفهومنا كدارسين للقانون وعلوم الاستراتيجية أن الاتفاقات التي تحقق مبدأ لا غابن ولا مغبون أو تكافؤ الحقوق هي الاتفاقات التي تدوم. أما الإتفاقات الإعانية فمصيرها مرهون بعوامل وقتية تمكن الطرف المغبون من تعديل ظروفه, ونقطع بأن المفاوض الفلسطيني يدخل هذه المفاوضات من منطق أن التفاوض المباشر هو الوسيلة الوحيدة المطروحة أمامه, ويتناسي أن المتاح قد يكون سعي الولاياتالمتحدة وتحديدا باراك أوباما لتحقيق حل غير متوازن يفرض علي الجانب الفلسطيني تحت فرضية أن ما يطرح هو أفضل المتاح.. فإذا ما نجح أوباما في هذا المخطط, فلسوف يعد مكسبا له في أوساط الصهاينة الأمريكيين قبل انتخابات الكونجرس القادمة.. أما إذا فشل هو وميتشيل في مهمتهما, فسيعني هذا تجميد مواقف باراك أوباما المتشددة تجاه الاستيطان والتعهد بالتوصل إلي اتفاق خلال فترة ولايته الأولي. ومع التسليم بحقيقة أن التنحي عن دخول المفاوضات هو نوع من أنواع الاستهانة بالحقوق والتهاون في صيانة حق المفاوض في تأكيد موقفه وحقه في دعم قضيته, والتأكيد علي أسانيده المشروعة ومحاولة تعديل الدفة لصالحه, فإن دخول المفاوضات باستراتيجية الحصول علي ما يعرض من المتاح فحسب.. هو نوع من أنواع الترهل في فنون التفاوض والتي تقوم علي مبدأ المقايضة بين ما يمكن التنازل عنه مقابل الحصول علي تنازل أو مزايا تتساوي في الأهمية من الطرف الآخر, وهنا يكون هذا المعيار هو نقطة النظام الفاصلة بين الاستسلام والتفاوض. ودعونا نقولها بمنتهي الصدق.. إن استراتيجية التفاوض من أجل الاستسلام التي بدأت منذ اتفاق أوسلو عام1993 قد فجرت المآسي علي المفاوض الفلسطيني, وان الاستناد إلي زعامة الرئيس ياسر عرفات لقيادة مسيرة استعادة الحقوق الفلسطينية قد باءت بالفشل, فقد أعطينا المخطط الإسرائيلي الفرصة علي طبق من ذهب ليفرض اسلوبه في اللعب, وليقف المفاوض الفلسطيني في خط دفاع مكشوف من جميع الجبهات. وأتساءل.. ما الذي سيحصل عليه المفاوض الفلسطيني من هذه المفاوضات في مقابل إعطاء المفاوض الإسرائيلي شرطية يهودية الدولة, والتي تعني إنهاء حق العودة وتفريغ إسرائيل من فلسطيني1948 والحق في السير في سياسة التوسع الاستيطاني في القدس والمنطقة المحيطة بها, وتهميش الدور الأمريكي خلال الجزء الباقي من ولاية الرئيس باراك أوباما. وقناعتنا أن علي المفاوض الفلسطيني ألا يقبل التفريط في أي من اساسيات قضيته ومواقفه الرئيسية, لأن ما سيتنازل عنه اليوم لن يمكنه أن يستعيده غدا, وأن عليه أن يحرص وبشدة علي جمع الشمل الفلسطيني, وإحياء منظمة التحرير الفسطيني كممثل وحيد للشعب الفلسطيني, وكمفاوض أساسي في القضية الفلسطينية.