أبدأ بنمط غير متعارف عليه في أدبيات الكتابة, وهو البدء بتقديم النتائج والتوصيات, قبل عرض الموضوع ودافعي إلي اتخاذ هذا النهج هو استجلاب النظر إلي أهمية الموضوع, وحتمية تدارك خطورته, قبل أن يفوتنا الوقت. وأري حتمية أن يعامل موضوع المياه في مصر باعتباره مسألة تستوجب انتهاج التخطيط والفكر الإستراتيجي في معالجتها, ومن هذا المنطلق فإنني أعرض اقتراحي بأن يوافق السيد رئيس الجمهورية علي تشكيل لجنة قومية للمياه تحت رئاسته, تضم خبراء وليسوا وزراء في كافة الفروع المتعلقة بالمياه في مصر سواء في اطارها الفني أو التفاوضي والسياسي, والقانوني, والتطبيقي, والمستقبلي, والاستشرافي, والتقويمي, والأمني, والصحي, والزراعي, والصناعي, والسياحي, واستخدامات المياه, وتدوير مياه الصرف الزراعي والصناعي والصحي, وفواقد البخر في مختلف مناطق مصر, وتوزيع المياه علي مناطق الزراعة المستصلحة وجدواها الاقتصادية والزراعية والمالية, ومصادر الثروة المائية المصرية المتجددة وغير المتجددة وغيرها من الفروع التي تتعلق بمسألة بل لا بأس أن نسميها بمشكلة المياه في مصر. وتزود هذه اللجنة بكافة البيانات والمعلومات المتعلقة بموضوع المياه كما أقترح أن توكل ادارة هذه اللجنة لشخصية استراتيجية وليست تنفيذية أو فنية.. وتقوم هذه اللجنة برفع تقريرها مباشرة للسيد رئيس الجمهورية, ليطرحه علي الجهات التنفيذية, لاستطلاع رأيهم خلال فترة موقوتة, ثم احالة الرد إلي اللجنة القومية للمياه للتعليق والرأي, لرفع الأمر مرة أخري للسيد رئيس الجمهورية لاتخاذ الموقف السيادي بشأنها. وفوائد هذه الآلية أنها ستكون لها صلاحيات العرض مباشرة علي رئيس الدولة وتخطي مزالق البيروقراطية, فضلا علي أن إحالة هذا الشأن إلي لجنة من الخبراء تترأسها قيادة إستراتيجية متمرسة, سوف تعطي لأزمة المياه بمصر الحجم الذي تستأهله في ميزان أولويات مستقبل مصر الاستراتيجي الحقيقي, والتعامل معها بأسلوب التخطيط وإدارة الحروب, والتي تعتمد علي نهج التدقيق في المعلومات والمصادر وتحليل المعلومات وتقدير أبعاد الموقف من زواياه المختلفة ومناقشة انعكاساته المؤكدة أو الأقرب إلي التأكيد وليست فقط المحتملة إضافة إلي ما سبق, فإن هذه الآلية سوف تتلافي الحساسيات التنفيذية في تحديد من هو صاحب الاختصاص الأساسي في معالجة هذا الموضوع والأهم من هذا كله أن الخبراء الذين سيعالجون هذا الملف ليست لهم صفة تنفيذية بل سياسية فنية, أو فنية سياسية, لكونهم لا يتعاملون مع هذه الجزئية بالقسمة أو الطرح وإنما بالجمع وبمعني أدق فإن الملف المطروح للنقاش سيكون الإستراتيجية المائية المصرية في المدي القصير والمتوسط والبعيد, وكيفية الحفاظ علي المصالح المصرية في حقوقها المائية, وتوفير احتياجاتها المتزايدة نتيجة للزيادة المطردة في عدد السكان وغيره من المسببات والحفاظ علي المتاح وتنميته بأسلوب التدوير أو دراسة الوسائل البديلة مع طرح إستراتيجيات التفاوض في الوقت الحالي والمستقبل, وتحديد الموقف التفاوضي ونقاط القوة والضعف أمام المفاوض المصري, والبدائل التفاوضية المطروحة وأولوياتها وغيره من النقاط المتعلقة بصلب موضوع المياه ومصر. وكان تقديري المتواضع للموقف أن المياه بالنسبة لمصر هي مسألة حياة أو موت, ولا يجوز التعامل معها باستخفاف أو بشوفينيه.. فهناك أزمة سياسية تدور رحاها الآن, تقوم محاورها علي رفض مصر والسودان التوقيع علي اتفاقية الاطار الصادرة في عنتيبي في15 مايو الماضي والتي وقعتها خمس دول آخرها كينيا يوم الأربعاء الماضي وسوف تنضم الكونغو قريبا, كما توقعها بورندي حسبما يرجح بعد انتخابات الرئاسة في28 يونيو2010 لتبقي مصر والسودان خارج المنظومة التي تضم أغلبية دول حوض النيل وإطارها التي حددته للتعامل بينها.. ولا أريد أن أدخل في فنيات الموقف المائي, ولكني أشير فقط إلي مجموعة من الأفكار جمعتها من قناعات كونتها مما قرأته وحضرته وسمعته خلال الشهر الماضي وأهمها: 1 أنني لا أقبل منطق رفض مصر التفاوض مع الدول الموقعة علي الاتفاق, لأن هذا الموقف غير تقني حيث يعد إهدارا لحق مصر في المشاركة في التفاوض ولو برفضها ودحضها للمطروح والمفروض علميا رسم استراتيجية تفاوض تحقق لمصر حفظ حقوقها والدخول كطرف مشارك في التفاوض ورهن توقيعها علي ما يتم التوصل اليه من اتفاقات ترضي جميع الأطراف وفقا لأطر إجرائية متفق عليها, ودعونا نقر بأن خطة التفاوض المصرية قد أخفقت حتي الآن, ويلزم تحقيق ما نطالب به بتشكيل المجلس القومي للمياه في مصر لرسم إستراتيجية تفاوضية علي أسس محققة وبواسطة خبراء وليس تنفيذيين. 2 أنه مع إقراري بأن مصر ليست مضغوطة أو مفروضا عليها قبول أي موقف تفرضه عليها دول حوض النيل وبالذات إثيوبيا لأنها عاجزة عن منع تدفق المياه إلي نهر النيل وبحيرة ناصر إلا أن قوة هذا الموقف التفاوضي المصري يسهل عليها رسم استراتيجية للتفاوض تقوم علي أسانيد فنية وتحركات سياسية, ودعم العلاقات الثنائية مع بلدان الحوض وفقا لإمكانيات مصر الاقتصادية والفنية وتشجيع التوسع في التعاون الفني والمالي بمساعدات دولية ومشاركة عربية ومصرية في مشروعات زراعية. 3 هناك أوراق تفاوضية يمكن استثمارها في محادثاتنا أهمها: تفسير ماتضمنته الفقرة14 من اتفاقية عنتيبي حول الأمن المائي من منظور يدخل عناصر تقويم متفق عليها مثل توزيع المياه وفقا لحصة الفرد من المياه وليس حصة الدول, واعمال معيار ما تحصل عليه الدولة من المياه من الوسائل البديلة مثل الأمطار والمياه الجوفية وغيرها, ورفض مبدأ بيع المياه وتوزيع المياه وفقا لمساحة الأراضي المزروعة فعليا وغيرها من نقاط التفاوض الفاعلة. 4 يلزم أن تقدر أن هناك فكرا مستقرا لدي حوض النيل بحقهم في استغلال المياه الخاصة بهم اتساقا مع مبدأ تقسيم الحصص بالأسلوب الذي يتفق مع مصالحهم وحق سيادتهم ورفض مبدأ الحق التاريخي.. وهي مسألة جدلية قانونية تستغرق وقتا طويلا في بحثها: فإحالة الأمر إلي التحكيم الدولي يلزم ان تتم باتفاق الأطراف وإحالته إلي القضاء الدولي يلزم أن يمر عبر الأممالمتحدة والمناورات السياسية والدبلوماسية وهو أمر محفوف بالشكوك.. فضلا علي أن الحصول علي رأي استشاري أو حتي حكم من محكمة العدل الدولية لن يعني حلا للخلاف ومن ثم فإننا يمكن أن نلعب بهذه الورقة كوسيلة ضغط جانبية وليست أساسية. 5 أن هناك سوء استغلال للمياه في مصر وتلويثا متعمدا لمياه النهر يحول دون سلامة مياه النهر وعملية اعادة تدوير المياه سواء للصرف الزراعي أو الصحي. 6 علاوة علي أن هناك سوء استغلال للمياه الجوفية غير المتجددة في بعض المناطق وإسرافا في تزويد مناطق بالمياه بسعر دون السعر الاقتصادي مثل منطقة توشكي, والتي يصعد إليها الماء عبر رافعتين ميكانيكيتين في مسار ترعة توشكي وعدم تطوير أساليب الري وغيره من الأمور الفنية المتعلقة باستثمارات واستعمالات المياه. 7 يلزم دراسة تأثير احتمالات انفصال السودان وبحث أساليب التعامل مع الموقف بما يكفل الحصول علي تأييد السودان شماله وجنوبه لموقف مصر المائي. وبعد فهل حق لي المطالبة بلجنة قومية للمياه؟ المزيد من مقالات محمود شكري