تتجه تركيا في الثاني عشر من سبتمبر المقبل, والذي يمثل الذكري الثلاثين لآخر الانقلابات العسكرية, لإجراء استفتاء شعبي حول التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان التركي في مايو الماضي, بأغلبية بسيطة جعلت من اللجوء إلي الاستفتاء أمرا حتميا لتعديل بعض مواد الدستور, الذي وضع عام1982, وذلك بعد عامين من الانقلاب الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين, وهو الدستور الذي يشير إليه منتقدوه بعبارة' الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش'. الهدف من التعديلات حسب رؤية حزب العدالة والتنمية الحاكم دعم الإصلاحات السياسية والقانونية التي أجراها الحزب بالتوافق مع حزب المعارضة الرئيسي حزب الشعب الجمهوري, بين عامي2002 و2004, والتي هدفت إلي الحد من تدخل الجيش في الحياة السياسية, وذلك من خلال إزالة الأساس القانوني للدور السياسي لجنرالات المؤسسة العسكرية في تركيا, فضلا عن تعزيز الحقوق الأساسية والحريات العامة والاعتراف بالهوية الكردية من خلال رفع الحظر عن التعليم والبث باللغة الكردية, بما دفع البعض إلي الإطلاق علي تلك الإصلاحات' ثورة صامتة', لاسيما أنها مهدت الطريق لبدء مفاوضات العضوية مع الاتحاد الأوروبي عام.2005 وفي إطار استكمال عملية الإصلاح السياسي والقانوني تأتي التعديلات الدستورية الراهنة والتي تهدف إلي تعزيز الحريات العامة والحد من صلاحيات الجيش, والسماح بمحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية, وقصر المحاكمات العسكرية علي الجرائم التي تتصل بالمهام والمسئوليات العسكرية, فضلا عن الحد من صلاحيات السلطة القضائية, والتي طالما وجهت لها اتهامات من قبل حزب العدالة, من جراء تدخلها في شئون السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويحظي الاستفتاء حول التعديلات الدستورية بأهمية خاصة بالنسبة للحزب الحاكم, الذي يسعي إلي تعزيز شعبيته وتنشيط صورته لدي جماهيره قبل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها العام المقبل, فضلا عن تأمين نفسه من محاولات الحظر التي أفلت منها سابقا بصعوبة. ويسعي الحزب إلي شحذ همم الناخبين لتأييد التعديلات من خلال الترويج لها, باعتبارها خطوة مهمة في سبيل الحصول علي العضوية الأوروبية, ويدعم موقفه في ذلك بمساندة' هانز ساوبودا' نائب رئيس لجنة دعم الديمقراطيات الاجتماعية بالبرلمان الأوروبي, لاسيما بعد تصريحاته التي طالب فيها أحزاب المعارضة بتأييد التعديلات الدستورية, مؤكدا أن تركيا باتت تشهد حركة نشيطة ودءوب اتجاه تعزيز ودعم الديمقراطية. ومع ذلك فدعوة' ساوبودا' لم تلق رواجا لدي أحزاب المعارضة, فحزب الشعب الجمهوري من جهته لم يكتف هذه المرة بمعارضة التعديلات, وإنما طالب المحكمة الدستورية بإبطال التعديلات, مدعيا أنها تشكل انتهاكا لاستقلال القضاء, مطالبا أتباعه بالتصويت ضدها, بعد أن أجازت المحكمة الدستورية برئاسة' هاشم كليج' التعديلات, وذلك عقب إبطالها الفقرات المتعلقة ببنية المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلي والمدعين العامين, تأسيسا علي أنها تتعارض مع استقلالية القضاء المنصوص عليها في بقية مواد الدستور. ومع ذلك فقد أبقت المحكمة علي التعديلات التي تمنح الرئيس صلاحيات واسعة في اختيار قضاة المحكمة الدستورية وكذا بالنسبة لمجلس القضاء الأعلي. وبصفة عامة يمكن القول ان الأحزاب السياسية في تركيا تنقسم بين معسكرين أحدهما مؤيد والآخر معارض للتعديلات. جميع أحزاب المعارضة الرئيسية تتخذ موقفا معارضا لموقف حزب العدالة الذي يطالب بتأييد التعديلات, مستندا في ذلك علي استطلاعات رأي تشير إلي أن زهاء55% من الناخبين يؤيدون التعديلات الدستورية, وكذلك عدد من الأحزاب غير الممثلة في البرلمان, هذا بالإضافة إلي تأييد ومساندة عدد كبير من الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. كما تجدر الاشارة إلي أن التعديلات الدستورية تلقي تأييد الزعيم الديني فتح الله كولن الذي يقيم في الولاياتالمتحدةالأمريكية, والذي دعيا الشعب التركي إلي الموافقة عليها, مشيرا إلي أن هذه التعديلات وإن كانت محدودة, غير أنها تمثل نقطة تحول مهمة في سبيل تعزيز الحريات العامة في تركيا, وهو أمر من المرجح أن يكون له تأثيراته المهمة علي عملية الاستفتاء, وذلك بالنظر إلي حجم وقوة تأثير جماعة فتح الله كولن ومؤيديه ومريديه إن داخل تركيا أو خارجها. وتتناقض ركائز حملة' لا للتعديل الدستوري' الذي تنتهجها أحزاب المعارضة في مواجهة حملة' نعم' الذي ينادي بها الحزب الحاكم, وذلك بعد أن اعتبرت أحزاب المعارضة التعديل الدستوري بمثابة' انقلاب مدني' علي مبادئ الدولة الأساسية, لا هدف منه سوي ترسيخ سيطرة الحزب الحاكم علي المزيد من المواقع المفصلية داخل بنية وهياكل الدولة التركية. فحزب الشعب الجمهوري من جهته روج أن حزب العدالة والتنمية يريد من وراء التعديلات وضع يده علي مؤسسات القضاء وتحقيق' انقلاب أبيض' ضد' الجسم القضائي', تمهيدا لتحقيق المزيد من أسلمة الدولة والمجتمع. كما رأي أن عملية التعديل أعدت بطريقة بعيدة عن التوافق السياسي, بما قد يفضي إلي تداعيات وخيمة حسب' دينيز بايكال' الذي قدم مؤخرا استقالته من زعامة حزب الشعب الجمهوري إثر فضيحة جنسية. هذا فيما اعتبر حزب الحركة القومية أن من شأن التعديلات الدستورية أن تؤدي إلي انفتاح الحريات الاجتماعية والشخصية, علي نحو كبير بما قد يؤدي إلي استفادة الحركة الكردية منها, لتشكل بذلك خطرا علي القومية التركية, وفي هذا الإطار يقول' دولت بهجلي' زعيم الحزب' اننا لن ننخدع ممن يخلطون مياه زمزم بالسم ويقدمونها لنا في كأس ذهبي'. وعلي المستوي الكردي, بدا أن رفض حزب السلام والديمقراطي للتعديل الدستوري يتأسس علي رفض حزب العدالة إدخال تعديلات قدمها الحزب, لها علاقة بخفض النسبة المطلوبة لدخول الأحزاب إلي البرلمان من10 إلي3%في الانتخابات, وتعديل المواد المتعلقة باللغة الأم وحق تعلمها, وإلغاء عقوبة منع ممارسة العمل السياسي عن أي شخص, واعتماد الجنسية التركية وليس العرق التركي كهوية حاسمة لمسألة الانتماء. وكما كان الحال دائما في تركيا, فعندما يتعلق الأمر بالإصلاح السياسي والدستوري فإن' الشيطان' يكمن دائما في التفاصيل, فأكثر ما تخشاه أحزاب المعارضة من هذه التعديلات أن تؤدي إلي إحكام سيطرة الرئيس التركي عبد الله جول علي المحكمة الدستورية ومختلف الهيئات القضائية العليا الأخري في تركيا, بما يقلل من استقلالية القضاء, وذلك في مقابل مبررات أنصار حزب العدالة التي تقول إن التجربة العملية لحزب العدالة تكشف أن الهيئات القضائية حتي لو كانت' مستقلة' فالأهم أن تكون' نزيهة', فالمحاكم العليا خلال السنوات الأخيرة أصدرت العديد من الأحكام التي تتسق وحسب مع التفسير المتشدد للمذهب' الكمالي', بدلا من أن تلتزم بنصوص وأحكام القانون. وفي المقابل فإن معارضي حزب العدالة يشيرون إلي أن الحزب الحاكم استطاع أن يؤثر علي الكثير من قرارات السلطة القضائية ونظام تطبيق القانون علي المستويات الأدني, وذلك من أجل خدمة سياساته الحزبيه.