لاشك أن أي تطور سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يستند إلي وجود ثقافة مواتية له وتشكل ركيزة لهذا التطور وتمنحه قدرا من المشروعية والمصداقية في آن واحد, سواء في أعين القاعدة الشعبية التي انطلق منها أو للفئات المستهدفة من جراء هذا التطور... وتتكون هذه الثقافة عادة من منظومة من القيم المتصلة ببعضها البعض والداعمة كل منها للأخري. ويصدق هذا التوصيف أكثر مايكون في حالة الدعوة إلي نزع السلاح النووي, فالتفكير المنطقي, بل وحتي الأولي, يقودنا إلي توقع أن تكون أكثر الدول والشعوب الداعية لنزع السلاح النووي هي اليابان, باعتبار أنها الدولة الوحيدة في العالم التي تعرضت فعليا, حتي الآن علي الأقل, للقصف بالسلاح النووي. لذا, فلا غبار في أن اليابان, ليس فقط علي المستوي الحكومي بل وربما بدرجة أوسع علي مستوي المجتمع المدني ومنظماته غير الحكومية, في مقدمة الدافعين باتجاه نزع السلاح النووي علي الصعيد العالمي. ولهذه الدعوة لنزع السلاح النووي ثقافتها الداعمة لها, والمتمثلة في عدد من الركائز التي سنسعي هنا إلي تناول بعضها, ولو بقدر من الإيجاز. وتتمثل أولي هذه الركائز في الهيباكشا, وهم اليابانيون الأحياء ممن عاصروا إلقاء القنبلتين النوويتين علي هيروشيما وناجاساكي وكانوا يعيشون في المدينتين خلال إلقاء القنبلتين النوويتين عليهما يومي6 و9 أغسطس1945 علي التوالي. وبالضرورة, فإن عدد هؤلاء في تناقص مستمر نتيجة تفاعل الزمن من جهة وحدود عمر البشر من جهة أخري. وتتباين التقديرات اليابانية بشأن العدد الباقي حاليا علي قيد الحياة من الهيباكشا, ويبرز هذا التباين علي وجه الخصوص بين التقديرات الحكومية الرسمية التي تتسم بقدر من التحفظ في تقدير أعداد الهيباكشا وبين تقديرات المنظمات غير الحكومية اليابانية, خاصة تلك التي يندرج في عضويتها الهيباكشا أنفسهم, فالتقديرات الحكومية تضع أعداد الأحياء من الهيباكشا في حدود70 ألف شخص, بينما تتضاعف الأعداد المقدرة من قبل المنظمات غير الحكومية المذكورة. وقد قرر الهيباكشا منذ وقت مبكر تجاوز أحزانهم الشخصية والعائلية أو حتي الوطنية نظرا لما حدث لهم من اصابات أو حروق أو تشوهات نتيجة الإشعاعات التي خلفها السلاح النووي, وكذلك ماسببه التفجير من خراب في مدنهم, وما أدي إليه من جرح للكبرياء القومي لوطنهم وشعبهم. وحول الهيباكشا أنفسهم ومنظماتهم إلي دعاة لنزع السلاح النووي علي المستوي العالمي, حيث جابوا العالم, وخاطبوا مختلف المؤتمرات والمحافل الدولية, الحكومية وغير الحكومية علي حد سواء, واستقبلوا في اليابان, وبشكل اكثر تحديدا في مدينتي هيروشيما وناجاساكي, مئات, بل ربما آلاف, الوفود من مختلف أرجاء العالم, ومن مختلف الأعمار والخلفيات, بغرض تعريف أكبر قدر ممكن من البشر في العالم بما تركه السلاح النووي علي أرض الواقع من دمار وخراب. وثانية هذه الركائز ترتبط بالركيزة الأولي, وهي خاصة بانطلاق مبادرة ضخمة لنزع السلاح النووي من قبل السلطات المحلية في كل من هيروشيما وناجاساكي, وهنا يجب الإشارة إلي أن هذه المبادرة, وإن نشأت في العقد التاسع من القرن العشرين. فإنها اكتسبت زخما كبيرا علي الصعيد الدولي في الأعوام القليلة الماضية, وأقصد هنا إنشاء منظمة عمد من أجل السلام غير الحكومية, التي أنشأها ويترأسها عمدتا هيروشيما وناجاساكي, وقد فتحت هذه المبادرة زراعيها لعمد المدن من مختلف أنحاء العالم. ووصل عدد من المدن المشاركة فيها حتي الآن إلي4069, ومن المنتظر وصول الرقم إلي حوالي5000 بحلول نهاية العام الحالي, وبالمناسبة فإن مدينة السويس المصرية كانت أول مدينة مصرية مشاركة في هذه المنظمة.ومرة أخري, وكما هو الحال مع نشاط الهيباكشا, فإن جهود عمد من أجل السلام لتحقيق النزع الشامل للسلاح النووي استندت إلي خصوصية وفرادة تجربة هيروشيما وناجاساكي في كونهما المدينتين الوحيدتين علي صعيد العالم اللتين تعرضتا للضرب بالسلاح النووي, كما نشأ تعاون بين هذه المبادرة ومنظمات الهيباكشا, وسعت المنظمة لتوظيف الهيباكشا لخدمة دعوتها داخل اليابان وخارجها للقضاء علي الأسلحة النووية. وبالرغم من أن نزع السلاح النووي علي الصعيد العالمي هو هدف عمد من أجل السلام منذ نشأتها, فإن هذا الهدف والمنظمة ذاتها شهدتها اختراقا نوعيا عام2008, عندما تبنت بروتوكل هيروشيما ناجاساكي والذي دعا, ولأول مرة, إلي برنامج زمني مبرمج لتحقيق هدف التخلص من السلاح النووي من علي وجه الأرض. فقد حدد البروتوكول عام2015 كموعد لانتهاء التفاوض والتوصل لاتفاقية دولية قانونية ذات طابع ملزم تحظر السلاح النووي عالميا, علي أن يتم فعليا استكمال تفكيك ترسانة السلاح النووي في العالم بحلول عام2020. أما الركيزة الثالثة للثقافة الداعمة لدعوة نزع السلاح علي الصعيد الياباني فهي متحف السلام الموجود بحديقة السلام بمدينة هيروشيما اليابانية, ويتميز المتحف بأنه يقدم عرضا متكاملا ليس فقط لحدث إسقاط القنبلتين النوويتين علي المدينتين بمعزل عن السياق التاريخي الذي أدي إليه, بل أيضا لتطور الأحداث, سواء علي الصعيد الداخلي في اليابان أو فيما يتعلق بدور اليابان الإقليمي وعلاقاتها الدولية منذ مرحلة مبكرة تعود إلي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر, بما يوضح خلفيات التطورات التي طرأت فيما بعد والتفاعلات التي أفضت في نهاية المطاف إلي دخول اليابان الحرب العالمية الثانية وموقعها ونمط تحالفاتها فيه وانتهاء بتعرض اليابان للقنبلتين النوويتين. وفي ضوء ماتقدم وغيره من اعتبارات, فلم يكن من المستغرب أن تتقدم اليابان إلي مؤتمر المراجعة الدوري الأخير لمعاهد حظر الانتشار النووي الذي عقد في نيوبورك في مايو2010 بمشروع قرار معنون ثقافة نزع السلاح النووي. فجزء كبير من هذه الثقافة ناتج عن حقيقة المعاناة الإنسانية والمجتمعية للشعب الوحيد في العالم الذي تعرض لاستخدام السلاح النووي حتي الآن.