يزداد الإقبال علي الدراما التليفزيوينة في كثير من أنحاء العالم علي نحو يشكل ظاهرة يلاحظها مراقبون ويدرس أبعادها والنتائج المترتبة علي التوسع فيها باحثون. وليس صعبا فهم لماذا يزداد هذا الإقبال في العالم. فالمسلسل التليفزيوني ينسج من تفاصيل كثيرة صورا حياتية ترتبط بالواقع أو تنطلق منه, وتعالج مشاكل مجتمعية شتي بمنأي عن الوعظ والتلقين, وبعيدا عن الإيجاز والتبسيط. وهذا فضلا عن قدرته علي المزج بين أشكال فنية عدة, والتشويق الماثل في نهاية كل حلقة. ولذلك يجوز النظر الي إدمان الدراما التليفزيونية في مصر, والعالم العربي عموما, في شهر رمضان باعتباره جزءا من ظاهرة عالمية أوسع نطاقا. ولكن خصوصية الإدمان المصري العربي تجعله مركزا في شهر من أشهر العام, الي حد أن هذا الشهر بات يعرف ببعض ما فيه من مسلسلات أكثر من أي شيء آخر. فما أن يهل هلاله, وقبيل أن يبدأ صيامه, تشخص الأنظار الي الشاشة الفضية لمتابعة المسلسلات بشوق عظيم. وحلت هذه المسلسلات الآن محل الفوازير التي كانت هي العلامة الفنية الأساسية المميزة لشهر رمضان لسنوات طويلة بعد بدء البث التليفزيوني الذي صار عمره50 عاما. ويحدث ذلك من عام الي آخر بالرغم من قلة المسلسلات التي عرضت في رمضان, في هذا العام أو ذاك, وتركت أثرا قويا في عقول الناس ووجدانهم. فقليلة للغاية هي هذه المسلسلات التي يذكرها الناس بعد انتهاء عرضها, لأن الإنتاج الدرامي الرمضاني يقوم علي الكم أكثر مما يعني بالمستوي والكيف. كما أن التجديد فيها محدود وبطيء لأن اعتبارات السوق التي تحكمها تفرض علي المنتجين إعادة إنتاج ما صار نجاحه مضمونا. وفي بعض الأحيان يظل الناس يذكرون مقدمة مسلسل أو أغنية تقدم فيها, أو حتي موسيقي تصويرية لافتة, دون أن يتذكروا المسلسل نفسه. ولا عجب في ذلك حين يكون التعلق بمسلسلات رمضان لا شعوري في أغلبه, وعندما يكون إدمانها طقسا من طقوس الشهر الكريم بغض النظر عن محتواها. ويرتبط هذا الطقس في كثير من الأحيان بحرص علي الأحتفاظ بذكريات من الشهر الفضيل. ولا غرابة في ذلك أيضا حين يكون الكم الكبير المتزايد باطراد مانعا من التركيز, وعندما يكون المستوي الضعيف والمتوسط حائلا دون التفاعل الذي يتجاوز أثره لحظة استقبال المسلسل. فلم يؤد الكم الآخذ في ازدياد, حتي وصل هذا العام الي أكثر من خمسين مسلسلا مصريا طويلا بخلاف الدراما العربية الأخري, الي الارتقاء بالمستوي. غير أن ازدياد الكم قد يتيح مع الوقت فرصة لشيء من التنوع في مواضيع المسلسلات واتجاهاتها. فمازالت المسلسلات الاجتماعية هي التي تحظي بنصيب الأسد, كما كانت الحال في السنوات الماضية, مع عدد معتبر من تلك التي تدور حول القتل والقتلي والقاتلين. فيزداد هذا النوع من الدراما الاجتماعية البوليسية, مع إرهاصات تنوع مازال في بدايته. فقد وصل التكرار الي حد أن ثلاثة من هذه المسلسلات تدور حول امرأة تبحث عن براءتها في قضية قتل وهي القطة العمياء وامرأة في ورطة وقضية صفية. وهذا فضلا عن كثرة المسلسلات التي يمثل القتل خصوصا, والجريمة عموما, ركنا أساسيا فيها. فمن قتل رجل أعمال مشهور في شاهد إثبات الي البحث عن الحقيقة بين جثث القتلي في بالشمع الأحمر, الي أجواء الجريمة المرتبطة بالثأر والمخدرات والأساطير في مملكة الجبل وموعد مع الوحوش وغيرها, يظل الدم سمة أساسية من سمات دراما رمضان التليفزيونية هذا العام. ويمكن أن نجد تفسيرا لذلك, بين تفسيرات أخري, في الفهم المبتسر لفكرة أن الدراما هي مرآة الواقع, إذ يشيع اعتقاد بين صانعيها في أنها تعني مجرد نقل هذا الواقع الي الشاشة. فإذا كان الواقع يقطر عنفا, فلابد أن يفيض قسم كبير من المسلسلات بالدم. ولعل هذا المفهوم الفقير للواقع هو المسئول أيضا عن غياب الدراما الرومانسية بدعوي أن الناس فقدوا القدرة علي الحب في واقع شديد العملية والجفاف, بالرغم من الإقبال الشديد علي مسلسلات تركية لا لشيء إلا لرومانسيتها المفقودة في الدراما المصرية. وقد نشرت الجارديان قبل أيام أن مسلسل نور أحدث ازدهارا في السياحة العربية الي تركيا هذا العام. والطريف في دراما رمضان الحالي أن عناوين بعض المسلسلات توحي برومانسية جميلة لا وجود لها فيها, مثل قصة حب وفي منتهي العشق ونداء العشق و أغلي من حياتي. ولم يقترن جذب بعض نجوم الغناء مثل محمد فؤاد ومصطفي قمر الي دراما رمضان هذا العام بأي ميل رومانسي فيها, ولو أنهما قدما عملين رومانسيين لتميزا بهما وسط الزحام المفرط الذي تاها في دروبه. وبالرغم من التوسع النسبي في المسلسلات الكوميدية التي عادت الي دراما رمضان منذ العام الماضي بعد غياب, فليس فيها عمل يمكن اعتباره مميزا, رغم قيام بعض نجوم الضحك ببطولة بعضها مثل أحمد آدم الفوريجي وأحمد مكي الكبير قوي وأحمد عيد أزمة سكر. وكلها كوميديا لطيفة ولكنها ليست مميزة, مثلها مثل ماما في القسم والعتبة الحمرا وغيرها من الدراما الكوميدية التي تبث الآن. كما أن هذا النوع من الدراما لم يقدم فيه نجوما جددا بخلاف الدور الذي قامت به الدراما الكوميدية الرمضانية في مرحلة سابقة. وبينما تفيد النظرة الأولي في مسلسل ملكة في المنفي أنه أقل مستوي من الملك فاروق الذي لم يكن بدوره رائعا, يظل الحكم صعبا علي دراما التاريخ والسير الذاتية التي تشمل أيضا شيخ العرب همام وكيلو باترا والجماعة قبل انتهاء عرضها. وقد غابت هذا العام دراما الصراع العربي الإسرائيلي التي تعالج قضايا في صلب هذا الصراع بعد إرجاء عرض أنا القدس وعابد كرمان. ومع ذلك فقد حضر هذا الصراع من بعيد في مسلسلات مثل أكتوبر الآخر وبفعل فاعل وسقوط الخلافة واغتيال شمس. وربما يكون هذا الأخير بين أفضل مسلسلات رمضان الحالي من حيث فكرته إذا جاز ترشيح بعضها من الآن لارتقاء موقع الصدارة, لأنه يعالج قضية تعتبر الأكبر والأخطر بالنسبة الي مستقبلنا, وهي اغتيال العلم. ويلفت الانتباه أيضا مسلسل مش ألف ليلة وليلة بسبب إبداعه في الترميز, إذ يحفل بالتعبيرات والأسماء الرمزية والإسقاطات التي تربط الخيال بالواقع. ولذلك جاء هذا المسلسل أكثر ثراء وعمقا من الدراما الواقعية الفجة الآخذة في الانتشار تليفزيونيا وسينمائيا.