المرأة الوحيدة سمة من سمات الدراما الاجتماعية في رمضان الحالي. ففي كثير من المسلسلات نساء بلا رجال, مثقلات بالوحدة في مجتمع لا يحسن الظن بالمرأة الوحيدة سواء كانت عانسا أو مطلقة أو أرملة. ولكن موضوع العنوسة هو الذي يحظي بنصيب مميز في دراما رمضان الجاري عرضها الآن. فهناك أكثر من عشرة مسلسلات تعالج هذا الموضوع إما بشكل مباشر, أو تتطرق إليه ضمن سياق آخر مثل عايزة أتجوز ومازلت آنسة و فرح العمدة و ريش نعام و ساعة الصفر وغيرها. وتبدو هذه المسلسلات كلها متأثرة بالفكرة التقليدية السائدة, وهي أن عنوسة المرأة مصيبة من أكبر المصائب. ولذلك فهي تبدو بعيدة عن جانب من جوانب الحياة الاجتماعية المعاصرة يرتبط بالتغير الذي حدث في دور المرأة وفي موقع بعض النساء في المجتمع, بحيث لم يعد الزواج بالنسبة إلي الناجحات منهن قضية حياة أو موت, بل أصبح مسألة ثانوية بالنسبة إلي الأكثر طموحا ممن ينغمسن في العمل, أو لا يجدن في محيطهن شبانا مناسبين للزواج. ولا يعني ذلك أن العنوسة لم تعد مشكلة بالنسبة إلي كثير من الفتيات, بالرغم من صعوبة تقدير الحجم الحقيقي لهذه المشكلة في ظل تباين الاحصاءات والبيانات. فالتقرير الذي صدر قبل أيام عن الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء بمناسبة اليوم العالمي للشباب يذهب إلي أن87.8 في المائة من الإناث في المرحلة العمرية(16 29 سنة) متزوجات. ولكن تقريرا حديثا صادرا عن مركز المعلومات بمجلس الوزراء قدر نسبة اللاتي تجاوزن الثلاثين ولم يسبق لهن الزواج بنحو2.8 في المائة من إجمالي النساء في الفترة العمرية نفسها. ولكن هذا التقرير أوضح وجود زيادة في معدل الزواج الاجمالي خلال الفترة1990 2008 غير أن هذا ليس هو ما يعنينا الآن, بل الجانب الإيجابي في عنوسة المرأة حين يقترن بنجاحها وقدرتها علي الاعتماد علي نفسها. وإذا كانت إيجابيات العنوسة مؤشرا علي تقدم يحدث في شريحة من شرائح المجتمع, فهي لا تخلو من دلالة مهمة بالنسبة إلي وضع المرأة في هذه الشريحة مهما كان صغرها, لأنها تتحدي النمط السائد في التعامل مع النساء باعتبارهن سلعا. وهذا التحدي ليس سهلا البتة في مجتمع يباع فيه كل شيء ويشتري, ويستخدم فيه جسد المرأة ومفاتنها بكثافة وعشوائية في الاعلانات التليفزيونية. وليست هناك مفارقة في توسع نظاق النظرة إلي المرأة علي هذا النحو, في الوقت الذي يزداد عدد النساء الناجحات اللاتي يتفوقن علي كثير من الرجال, فلا يجد بعضهن شبانا جديرين بأن يشاركوهن حياتهن. فهذا التناقض هو من طبائع التطور غير المتكافئ في المجتمع. وحين يكون التطور غير المتكافئ عشوائيا ومقترنا بفوضي اجتماعية, كما هي الحال في مجتمعنا, يصبح هذا التناقض أمرا مفهوما. ففي الوقت الذي تحقق فتيات نجاحا كبيرا يجعل الحفاظ علي التفوق أهم من الزواج, أدي الفزع من العنوسة في نطاق واسع من المجتمع إلي ابتكار أشكال جديدة لتقنين العلاقة بين رجل وامرأة, وانتقالها بسرعة من منشئها في بعض مجتمعات الخليج العربي إلي المجتمع المصري, وأشهرها ما يطلق عليه زواج المسيار. فعندما أباح بعض رجال الدين في مصر هذا النوع من الزواج وغيره مما لا تحترم فيه بعض أركان النكاح في الاسلام من عقد تراض ومهر وشهود, برروا ذلك بخطر عنوسة المرأة. وإذا كانت هذه الأشكال الجديدة للزواج تثير خلافات عقدية وفقهية, فهي نتيجة أزمة اجتماعية وينبغي النظر إليها ومناقشتها في هذا السياق, فهي ليست قضية شرع في الأساس, بل مسألة مجتمع يتغير في اتجاهات مختلفة ومتعارضة في ظل التطور غير المتكافئ الذي يزيد الفجوات بين شرائحه وفئاته. وبموجب هذا التطور نجد فتيات لا يعرن الزواج اهتماما كبيرا, وهن قادرات من الناحية المالية, وأخريات أكثر يختلف علماء الدين حول امكان تزويجهن بأموال الزكاة. وفي ظل التطور غير المتكافئ أيضا, نجد فتيات تعتذر الواحدة منهن عشرات المرات لمن يطلبون الزواج منها, في الوقت الذي لا تجد أخريات حرجا في البحث عن زوج عبر القنوات الفضائية. وقد بلغت أعداد الباحثات عن زوج بهذه الطريقة مبلغا دفع إلي اقامة قناة فضائية متخصصة في التزويج تحمل اسم وسيط الخير. وأكثر من ذلك, أظهرت دراسة أجريت في جامعة الملك عبدالعزيز السعودية العام الماضي أن83 في المائة من طالبات الزواج عبر الفضاء لم يحددن نوع هذا الزواج ولم يشترطن بالتالي أن يكون مكتمل الأركان الشرعية. ولذلك, وبالنظر إلي حجم مشكلة العنوسة في حياتنا, من الطبيعي أن تعني بها الدراما التليفزيونية التي تحاول التعبير عن الواقع. ولكنه ليس طبيعيا إغفال الجانب الإيجابي في هذه القضية حين تكون العنوسة نتيجة تقدم في عمل المرأة ودورها لا يترك لها فراغا لتملأه بزواج إلا إذا كان مساعدا علي استمرار هذا التقدم. فكثيرات هن, في عالم اليوم, النساء اللاتي قررن تولي زمام حياتهن والانغماس في العمل والطموح. وهن لا يعارضن الزواج, ولكنهن لا يقبلن الإقدام عليه إلا إذا كان الشريك مناسبا, إذ لا منطق ولا حكمة في أن ترتبط الواحدة منهن برجل عادي. ويحدث ذلك في مجتمعات ذات طابع أبوي, مثلما نجده في أخري ليس لها هذا الطابع, لأنه نتيجة ضرورية لنظرية الانتخاب الطبيعي عندما يزداد عدد النساء الناجحات. فوفقا لهذه النظرية, يبحث الرجال عن نساء أضعف منهن أو أقل نجاحا, بينما تسعي الفتيات للارتباط بشبان أقوي وأكثر مكانة منهن. والنتيجة التي تترتب علي ذلك هي أن يبقي نساء أكثر تفوقا ورجال أقل نجاحا, أو فتيات متميزات وشبان عاديون. وقد أصبح الكثير من المتميزات قادرات علي شق طريقهن بدون رجال معهن, وصار الزواج بالنسبة إليهن اختيارا لابد أن تكون له قيمة مضافة, وليس ضرورة أو قدرا. وبالرغم من أن هذا النوع من النساء مازال قليلا في مجتمعنا, مقارنة بمجتمعات أخري, فهن في ازدياد مستمر علي نحو يجعل إغفالهن في الدراما التي تتطرق إلي قضية العنوسة خطأ ينبغي تصحيحه.