أعتقد أنه سيكون من الصعب علي الرأي العام تقبل التصريحات الرسمية التي تفسر الارتفاعات المستمرة في أسعار بعض السلع بتقلبات الأسعار العالمية او أنها نتيجة طبيعية للعلاقة بين العرض والطلب وذلك لسببين: الأول, أنه في كثير من الأحيان لم تحدث زيادات مماثلة في الأسعار العالمية. والثاني, أن هذه التقلبات تحدث في السوق المصرية بشكل مطرد وسريع لايعكس تفاعلات موضوعية في السوق. والمعني السياسي لهذه التصريحات خطير وسلبي ومؤداه أن هذه التقلبات أمر طبيعي في الاقتصاد الحر وأن الحكومة ليست مسئولة عما يحدث وأن علي المواطنين أن يخضعوا ويستسلموا لتلك التقلبات السعرية الحادة باعتبارها جزءا من نظام الاقتصاد الحر. وهذا القول أو الاستنتاج غير صحيح لا علي مستوي النظرية الاقتصادية ولا علي مستوي التطبيق في الدول الرأسمالية. والحقيقة أن الأسعار تعبر عن العلاقة بين العرض والطلب إذا كانت السوق تتم إدارتها بطريقة رشيدة ذات كفاءة ولا تستطيع أي حكومة أن تتخلي عن مسئوليتها في إدارة الأسواق فهي مهمة أساسية لها في كل النظم الاقتصادية. وفي الاقتصاد الحر تمارس الحكومة دورها ليس بالتدخل الإداري أو تطبيق نظم الرقابة الجبرية علي الأسعار ولكن من خلال الحوافز الاقتصادية والتدخل لضمان كفاءة إدارة السوق. وكفاءة السوق وصدق تعبيرها عن قوي العرض والطلب تتحقق من خلال وجود المنافسة بين عدد من المنتجين أو المستوردين ففي هذه الحالة تعمل قوانين العرض والطلب, أما عندما تسود السوق أوضاع وممارسات احتكارية فإن الأسعار لا تكون تعبيراي عن علاقة العرض بالطلب بل تصبح' حكم القوي علي الضعيف'. دور الحكومة يتمثل في إدارة الأسواق وتحديد مدي وجود أوضاع وممارسات احتكارية. وعلي سبيل المثال ففي عدد من مجالات الاستيراد في مصر فإن السوق مغلقة علي عدد محدود من المستوردين لا يتجاوز أصابع اليدين. ودور الحكومة هو العمل علي تغيير هذه الأوضاع والممارسات وتشجيع دخول لاعبين جدد في مجال الانتاج أو الاستيراد لكسر هذه الأوضاع الاحتكارية. ويمكن للحكومة أيضاي أن توجد البديل من خلال قيامها مباشرة بالاستيراد وتوفير البديل للمواطنين من خلال المجمعات الاستهلاكية والجمعيات التعاونية. وهكذا فإن المطلوب هو الارتفاع بكفاءة السوق حتي تؤدي وظيفتها في الاقتصاد الحر. ووظيفة السوق هي إدارة العلاقة التنافسية بين المنتجين والمستوردين والمستهلكين أي بين منتجي السلع والخدمات من ناحية ومستخدميها والمستفيدين بها من ناحية أخري. والهدف من تلك الإدارة هو تحقيق السعر العادل أو المنصف الذي يعطي للمنتج والمستورد والبائع حقوقهم من الربح دون جور أو ظلم علي المستهلك. والإدارة الكفء للأسواق لا تتم باتخاذ قرارات عنترية أو إجراءات إدارية ولكنها تحترم قواعد الاقتصاد الحر بشرط أن يكون الاقتصاد' حرا' بحق وأن يضمن المنافسة وان يكون هناك تعددية ومنافسة بين المنتجين والمستوردين والبائعين. أما عندما يحدث الاحتكار فإن الاقتصاد يتوقف عن أن يكون' حرا' وتتوقف قوانين العرض والطلب عن العمل. لذلك فإن الأمر يتطلب تبني مجموعة من الاجراءات والقرارات والممارسات لضمان المنافسة وضمان حرية دخول السوق والخروج منه. لقد كانت واحدة من أهم نتائج الأزمة الاقتصادية التي مازال العالم يعيش نهايتها أن حركة الشركات والأسواق المالية سبقت قدرة مؤسسات الرقابة علي متابعتها وأن هذه الحركة بما رافقها من انفلات وجشع ورغبة عارمة في الربح دفع باقتصادات العالم المتقدم إلي حالة الأزمة وببعض من أكبر بنوكه وشركاته المالية إلي الانهيار مما أدي إلي تدخل الحكومات لانقاذها, كما دفعها إلي إصدار تشريعات جديدة مثل قانون الإصلاح المالي الذي وافق عليه الكونجرس الأمريكي أخيرا. والمؤلفات التي تعرض لمبادئ الاقتصاد الحر تؤكد ان الأسواق قادرة علي تصحيح نفسها بنفسها والتعامل مع الاختلالات الاقتصادية بفعل قوي العرض والطلب. وهذا صحيح في حالة المنافسة ولكن في حالات الاحتكار فإن الأسواق لا تغدو قادرة علي التصحيح الذاتي بل يتطلب الأمر تدخل الحكومة. وتوضح خبرات الدول أن اتباع سياسات الاقتصاد الحر لا يعني بالضرورة وجود السوق الحرة وأنه في بعض الأحيان فإن رجال الاقتصاد الحر يكونون ضد تحرير السوق لأنه يتعارض مع مصالحهم الاحتكارية. والاقتصادات التي حققت معدلات عالية من النمو كانت غالبا تلك التي فتحت أسواقها بالشكل الذي يضمن المنافسة ويوقف الاحتكار. وكما أن الديمقراطية في المجال السياسي تقوم علي تعدد الأحزاب والآراء السياسية فإن الديمقراطية في المجال الاقتصادي تقوم علي التعددية في الانتاج والاستيراد وتقديم الخدمات بحيث يتحقق للمواطن أو للمستهلك الحق في الاختيار. في السياسة من خلال صناديق الانتخاب وفي الاقتصاد من خلال الأسواق وسريان قوانين العرض والطلب. وغير صحيح أن آباء الفكر الرأسمالي مثل آدم سميث ركزوا فقط علي اعتبارات الكفاءة الاقتصادية وأهدروا الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية. والذي يقرأ كتابات هؤلاء الرواد يجد إشارات واضحة إلي الدور الاجتماعي والأخلاقي للاقتصاد, ففي نهاية الأمر فإن وظيفة الاقتصاد هي سد احتياجات المواطنين من سلع وخدمات والارتفاع بمستوي رفاهيتهم الاقتصادية من خلال تكوين الثروة وزيادتها وحسن توزيعها.