مع ترددي بين المقهي والمكتب,كنت لاحظت واحدا نحيلا يرتدي سترة رمادية قديمة, يعطي وجهه لجدار داخلي ويتكلم وحده كلاما موصولا عبارة عن فحيح غير مفهوم. كنت أراه من الجنب وهو يقوم بحركات عصبية كأن يغلق عينيه ويفتحهما ويرفع حاجبيه أو يضم شفتيه إلي الأمام ثم يسبحهما الي الجانبين ويوسع فمه. كان يشبك يديه وراء ظهره ورأسه حليق بالماكينة. في البداية لم أهتم كثيرا لأن مثل هذه النماذج التي تتحدث للجدران أو لنفسها لا تخلو منها قاعة من قاعات المصلحة. 2 كنت أمضي ساعات العمل جالسا بالمقهي ثم أدخل المكتب أوقع وأعود إلي البيت. وكانت أمي تتجول بالشقة علي غير هدي بعدما عصبت رأسها, بينما إخوتي الصغار يتابعونني في الشقة وقد رفعوا وجوههم الي. كانت هي تستقبلني بعينين شبه دامعتين وكنت أبتسم لها وأحاول أن أخفف عنها وأفتح الراديو الذي أغلقته طول النهار, حينئذ يظهر شيء من الاطمئنان علي أخوتي ويلعبون داخل الشقة وخارجها. لم أكن حكيت لأبي شيئا عما جري. كنت أعرف أن أمي حكت له وكذلك توفيق. كنا نبتسم لبعضنا بعضا إذا التقت أعيننا ثم ينشغل كل واحد بأي شيء. كنت آكل وحدي معظم الوقت. قبل خروجي الي المقهي, كنت أراه بعدما انتهي من قيلولته يجلس علي الكنبة في آخر الصالة يلف سيجارته بعناية ويتشاغل بقراءة الجريدة. كان يعرف أصدقائي ويثرثر معهم بينما سيطرت علي علاقتي به حالة من الحرج والارتباك. كنت أحبه بطبيعة الحال وإذا انفردت به لا أجد ما أقوله. كلامه لي أيضا كان ودودا ومقتضبا لا يتيح فرصة للأخذ أو الرد, الأمر الذي كان يرضيني لأنه ينهي انفرادي به في أسرع وقت. كان يتحدث عني مع بعض أصدقائي وتوفيق يخبرني أنه يسأله عني وعن البنات والسهر والمخدرات. لقد انتهي الأمر بأن صرنا نتعايش باستحياء في المرات التي نلتقي فيها داخل الشقة. وعندما كان يقرأ الجريدة كانت أمي ترمقني في لوم وتهمس لي: أحك لأبيك 3 اقتربت متمهلا من الكنبة. جلست وقلت: عرفت اللي حصل؟ قال: سمعت كان طوي الجريدة ووضعها إلي جواره, وثني رجله ووضع مرفقه علي ركبته العالية, بينما تدلت المسبحة من أطراف أصابعه وانتبه لي تماما. كنت أجلس بطريقة غير مريحة لأني استدرت بنصفي الأعلي لكي أوجه كلامي إليه. قصصت عليه ما جري كله في اختصار. رجل أعمال كبير من سكان المنطقة دخل مشروعا مع الحكومة واتفق معها علي دفع مبلغ من المال. والحكومة اكتشفت أنه تلاعب في الوقت الذي وصلها المبلغ المتفق عليه. لو تسلمته في المدة القانونية يصبح المشروع ساريا, لذلك لم تتسلمه بل ردته له بشيك في خطاب حكومي. وأخلوا المشروع ورموا معداته في الأرض العراء. وهو تسلم الشيك وانتظر حتي انتهت المدة القانونية ورفع قضية يطالب بتعويض عن رمي المعدات وتنفيذ العقد لأنه سدد التزاماته في المدة القانونية والحكومة قبلتها. ولما الحكومة قالت إنها ردت له الشيك قبل انتهاء المهلة, قال هو إن ذلك لم يحدث ولم يتسلم شيئا. سمعني وقال: لكن هو تسلم الجواب اللي فيه الشيك. قلت: آه. ووقع علي الإيصال؟ هززت رأسي نافيا. التفت الي بعينيه الجميلتين, ومقدمة رأسه الخالية من الشعر. قلت: أنا اللي وقعت وكان عندما يفكر يضم شفتيه ويمدهما إلي الأمام, وبعدما فعل ذلك قال إن خليل المحامي أخبره أن النيابة تظن أن الرجل أعطاك قرشين لكي توقع مكانه. علمت أنه يسأل من ورائي, وقلت له إن خليل المحامي حمار واعتدلت في جلستي. وهو التفت وقال: يعني الرجل لم يعرض عليك فلوسا. قلت: لا طبعا. قال: الله. أمال إيه اللي خلاك توقع. ما أنا قلت لك انه طلب مني في حالة وصول مسجل, أوقع بداله. هز رأسه وقال: أيوه صحيح. وتناول الجريدة. بعدما تركته وقمت, لمحت أمي ترمقني من بعيد. وللكلام, بقية. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان