(1) انتبهت فجأة للشاب الذي يرتدي السترة الرمادية ويعطي وجهه للجدار ويتكلم. قالوا لي إن اسمه سليمان, مريض يسكن قريبا من المكتب, وإن أمه تأتي به كل صباح وتعود لتأخذه. عندما اقتربت وجدته سليمان الشاعر. كانت ملامح وجهه قد تشوهت بسبب من الحركات العصبية التي يقوم بها طيلة الوقت, وهو التفت برأسه الحلق وتطلع بحاجبين مرفوعين مليئين بالدهشة والهلع. لم يعرفني.. وأدركت أنني فقدته إلي الأبد. (2) كانت أياما صعبة, وكنت ما أزال أذهب إلي قصر الدوبارة, لم أعرف ما الذي كنت أعول عليه, كنت أدرك أنها قضية كبيرة بين جعفر عمران والحكومة, لكن صدمتي كانت كبيرة في الرجل الذي كان دائم الكلام والضحك معي, وهو يقابلني بوجه محايد ويتشاغل عني ويعطيني ظهره. إذ أقترب, حتي زوجته الإنجليزية التي تسكن شقة مستقلة في العمارة المجاورة للتي يسكن بها, ويلتقيان بين آن وآخر, والتي كانت دائمة الوقوف معي للكلام والضحك بلهجتها المكسرة. المرة الأخيرة رأيتها تمشي بقامتها النحيلة, وفستانها الخفيف القصير وهي تسحب وراءها كلبها الدقيق الذي يدرج علي الرصيف ويعرفني بدوره لم تفعل إلا أن التفتت من بعيد وهزت رأسها بشعرها الأسود الملموم وواصلت طريقها في صمت, حتي سعيد السفرجي صار يتجنبني. لم يكن ممكنا للأمور أن تنتهي هكذا أبدا, كان توفيق يمر علي كل مساء حيث نذهب إلي المقهي, نجلس شبه صامتين في انتظار خليل المحامي الذي قال إنهم علي وشك أن يطلبوني للذهاب إلي خبير الخطوط في مصلحة الطب الشرعي, وعندما كنت أعود إلي البيت أمضي طول الليل أمام الأوراق وأتدرب. (3) كنت طلبت منه أن يخبرني ما الذي سوف يفعله الخبير بالضبط, وخليل قال إنه سوف يضع الدفتر أمامي مفتوحا, وإلي جواره مجموعة من الورق الأبيض, وسيطلب مني أن أنظر إلي توقيع جعفر عمران وأكتب مثله عدة مرات. بعد ذلك سوف يأخذ الدفتر والورق بعيدا ويعطيني واحدة جديدة ويجعلني أواصل الكتابة حتي أملأ الورقة, ثم يصرفونني ويقوم الخبير بالفحص وكتابة تقريره وتقديمه للنيابة. (4) بعدما فكرت في هذا الكلام فهمت منه أنهم عندما يضعوا التوقيع أمامي ويطلبون أن أكتب مثله, إذا لم يكن الخط خطي فسوف يكون الأمر واضحا مهما كان عدد المرات التي سوف أكرره فيها, أما إذا كان الخط خطي فإنني بالطبع سوف أكتب بخط مختلف عما أراه, وما أن يأخذوا الأوراق من أمامي ويطلبوا مني أن أكرر ما كتبته فإنني لن أستطيع الاستمرار بالطريقة نفسها, لأن أحدا لا يستطيع طول الوقت أن يكرر خطا ليس خطه. كنت أعرف شكل التوقيع الذي وقعته, وهو كتابة اسم جعفر عمران مثل توقيع سريع, ولم يكن أمامي والحال هكذا إلا أن أخترع لنفسي خطا مختلفا وأن أتمرن عليه ليل نهار حتي يصير هو خطي الأصلي الذي يمكنني أن أكرره مئات المرات دون أي تغيير, وأنا عكفت ليل نهار أتدرب علي خط لا يخصني حتي أصبحت مطمئنا أنه صار يخصني, وأي ورقة تصادفني في أي وقت كنت أخرج القلم وأتدرب. (5) جري الأمر كما أخبرني خليل المحامي تماما, وضعوا أمامي الدفتر مفتوحا, وعلامة حمراء تحيط بخانة التوقيع, وطلبوا مني أن أكتب مثله, كانت أمي طلبت مني أن أقرأ الفاتحة لأم هاشم قبل أن أكتب, قرأتها وركزت تماما واستحضرت الخط الجديد الذي صار خطي, بعد قليل حملوا كل شيء وتركوا لي عدة أوراق بيضاء وطلبوا مني أن أستمر بالكتابة. تركوني وحدي في الحجرة وخرجوا. (6) بعد عدة أيام استأجرت العائلة ميكروباص واتجهوا جميعا إلي نيابة الموسكي, أمي وأخوتي الصغار والجيران, بينما سبقتهم برفقة توفيق مع خليل المحامي الذي دخل وتركنا جميعا عند الناصية. كنت خائفا غير مصدق أنني يمكن أن أسجن بسبب شيء مثل هذا, ثم لمحنا خليل يهبط الدرجات القليلة في بدلته القديمة, حافظة الجلدية في يد بينما يسوي ربطة عنقه الحمراء بالأخري, أسرعنا نحوه, وهو قال: إن الموضوع انتهي, لأن الخبير كتب في التقرير أن الخط الذي علي الإيصال ليس خط عبدالله.