غدًا.. المصريون بالداخل يدلون بأصواتهم في جولة الإعادة بال19 دائرة الملغاة    جامعة قناة السويس تستكمل استعداداتها لامتحانات الفصل الدراسي الأول    المستشار طاهر الخولى يكتب: الإرهاب.. حرب طويلة المدى    2026.. عام الأحلام الكبيرة    2025 عام الإنجازات | فى جميع الميادين والمجالات مصر فى 2025.. نجاحات ُمبهرة وفرص واعدة    شركة مياه الشرب بالقاهرة: عودة الخدمة للزيتون قبل موعدها ب 4 ساعات    مجلس القيادة اليمني يطلب من تحالف دعم الشرعية حماية المدنيين في حضرموت والمهرة    الدفاع الروسية: إسقاط 77 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    جيش الاحتلال الإسرائيلي يعلن مهاجمة أهداف تابعة ل حزب الله في لبنان    التشكيل الرسمي لمباراة المغرب ضد مالي    الهلال يتخطى الخليج ويواصل مطاردة صدارة الدوري السعودي    وزير الرياضة: روح العزيمة والإصرار سر فوز منتخب مصر علي جنوب أفريقيا    السيطرة علي حريق نشب في سيارة ب "زراعي" البحيرة    لميس الحديدى ووزير التعليم    محكمة جنايات الإرهاب بوادي النطرون تحاكم غدا تكفيرى أسس جماعة إرهابية    جريمة فى الأعماق    تعرف على المتسابقين فى الحلقة الثالثة عشر من دولة التلاوة.. فيديو    بدءًا من 2 يناير وحتى 27 يونيو 2026 |انطلاق 36 قافلة طبية علاجية مجانية بمراكز ومدن الجيزة    التنمية المحلية تعتذر للزميلة هبة صبيح    جمارك السلوم تمنع تهريب أدوية بشرية أجنبية الصنع    وزارة «العمل» تنظم الحد الأقصى لتواجد العاملين يوميًا بمنشآت القطاع الخاص    المشير طنطاوي قال "أزمة وهتعدي".. نبيل نعيم يُفجر مفاجأة بشأن تهديدات أمريكا لمصر في 2012    المتحف القومي للحضارة يطلق فعاليات «روح ومحبة»    علي ناصر محمد: اتفاق السعودية والإمارات وإيران مفتاح حل الأزمة اليمنية    لماذا لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة خديجة طيلة 25 عامًا؟.. أحمد كريمة يُجيب    علي ناصر محمد: مشروع الوحدة في مؤتمر القاهرة 2011 نموذج لاستقرار اليمن والرخاء    وكيل الطب العلاجي يتابع أعمال التطوير بالسنبلاوين العام ويؤكد على سرعة الاستجابة للمرضى    خلال 3 أيام.. التفتيش على 1135 منشأة يعمل بها أكثر من 11 ألف عامل    ما هي حساسية الشتاء؟ وطرق علاجها والوقاية منها بالمنزل    مزاد علني لبيع محال تجارية ووحدات إدارية بحدائق أكتوبر    مؤتمر جوارديولا: انتصرنا في 7 مباريات متتالية لكننا لسنا في وضع جيد    بالصور.. كواليس مسلسل «تحت الحصار» بطولة منة شلبي | رمضان 2026    غرامة كبيرة| مخالفة القيادة بدون رخصة.. إحذر قانون المرور الجديد    أحدث تصوير ل مترو الخط الرابع يكشف آخر مستجدات الموقف التنفيذي للمشروع (صور)    وزير التعليم العالي يفتتح استوديو جامعة بورسعيد بتكلفة 21 مليون جنيه.. صور    أمم إفريقيا – التشكيل.. مشنجاما يقود هجوم حزر القمر وداكا أساسي مع زامبيا    رئيس جامعة كفر الشيخ يفتتح المؤتمر السنوي السادس لقسم القلب بكلية الطب    وزارة العدل الأمريكية تكشف عن أكثر من مليون وثيقة مرتبطة بقضية جيفري إبستين وتأجيل الإفراج الكامل يثير جدلاً    رسميا.. أحمد سامي مديرا فنيا لمودرن سبورت    وزارة الداخلية: ضبط عنصر جنائي بالجيزة تخصص في تزوير الشهادات الجامعية وترويجها عبر مواقع التواصل الاجتماعي    عميدة طب بنات الأزهر في حفل تخرج الوافدين: كونوا نبراسًا للرحمة ببلادكم    إصابة مواطنين إثر انقلاب سيارة ربع نقل على صحراوى جنوب الأقصر    وزير النقل الألماني: خفض ضريبة الطيران لا يعني بالضرورة تذاكر أرخص    خشوع وسكينه..... ابرز أذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    كوريا الشمالية تعلن خطة لتوسيع إنتاج الصواريخ وتعزيز قدراتها العسكرية في 2026    اتحاد السلاح يستعين بخبير بولندي لتبادل الخبرات الفنية في سلاح السيف    الصورة الأولى للفنان محمود حميدة بعد مغادرته المستشفى    رئيس وزراء السودان: اللقاءات مع الجانبين المصري والتركي كانت مثمرة    خطوات هامة لسلامة المرضى وحقوق الأطباء.. تفاصيل اجتماع اللجنة العليا للمسئولية الطبية    خناقة في استوديو "خط أحمر" بسبب كتابة الذهب في قائمة المنقولات الزوجية    دعاء أول جمعة في شهر رجب.. فرصة لفتح أبواب الرحمة والمغفرة    باكستر: جنوب إفريقيا فرصتها أكبر في الفوز على مصر.. ونجحت في إيقاف صلاح بهذه الطريقة    «شيمي»: التكامل بين مؤسسات الدولة يُسهم في بناء شراكات استراتيجية فعّالة    وزارة الخارجية ووزارة الاتصالات تطلقان خدمة التصديق علي المستندات والوثائق عبر البريد    مجلس جامعة القاهرة يعتمد ترشيحاته لجائزة النيل.. فاروق حسني للفنون ومحمد صبحي للتقديرية    مدير دار نشر: معرض القاهرة للكتاب لا يزال ظاهرة ثقافية عالمية    الكومي: صلاح أنقذ مصر أمام زيمبابوي.. وهدفنا صدارة المجموعة    وفاة الزوج أثناء الطلاق الرجعي.. هل للزوجة نصيب في الميراث؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نشرة أخبار التاسعة
نشر في اليوم السابع يوم 16 - 05 - 2010

أعرف عم فرج منذ أن تفتحت عينى على الحياة، وهو كما هو، نفس الشعر الأجعد المترب، نفس العينين الضيقتين الغائرتين خلف عظام الوجنات البارزة، نفس الفك المنكمش الذى تتناثر فيه شعيرات مدببة، وفم لا تبدو منه سوى سنة واحدة فى المنتصف تقريباً، حين يبتسم، وقلما يبتسم.. سنة واحدة عريضة ملونة.. نعم ملونة !!.. فى الجزء السفلى منها الملتصق باللثة لون أسود، يعلوه مباشرة لون بنى غامق متسخ، والباقى عبارة عن لون برتقالى أو أصفر أو أخضر، بحسب آخر وجبة يكون قد تناولها.. ولأنه يعز الملوخية، فاللون الأخضر يكون غالباً.
ولكنه يحب الفول بالزيت الزفر أيضاً، مع الكثير من البصل والمخللات، يلتهم الصحن بأربعة أرغفة يبتلعها فى ثمانية حركات متتالية وسريعة وكأن أحداً على وشك أن يختطفها منه، فهو يكور نصف الرغيف على شكل " ودن قطة "، ثم يغرسه كالجاروف فى الغموس، ومنه إلى فمه ... وبعد أن ينتهى من طعامه، يمر براحة كفه الأيمن على بطنه وكأنه يدلكها، ويتجشأ بصوت مرتفع، ثم يرفع نفس اليد عن بطنه كى يحشر سبابته فى فمه وهو يلوكها يميناً وشمالاً حول سنته المنفردة وهو يمتص ويبتلع ما تبقى من فتات فى حلقه..
ومنذ طفولتى كنت أراه بنفس المعطف الكاكى ذى الأزرار النحاسية المطفأة، يرتديه فوق جلباب أسود أو رمادى، وينتعل حذاءاً برقبة من أحذية الجيش، وبمرور السنين تدهورت حالة هذه الملابس، ولكنه لم يغيرها، بل أنه كان شديد الإعتزاز بها، يقول عن معطفه :
"بذلتى فى حرب 48.. مع عبد الناصر فى الفالوجا "، ثم يضرب جبهته بكفه الأيمن قائلاً :
" قلت لهم ما فيش داعى للهدنة ما سمعوش الكلام.. يا ريتهم سمعوا كلامى !!"، يغمض عينيه وكأنه يعتصر ذكرياته ويقول لمن حوله: "أنا شفت البطل أحمد عبد العزيز، والفدائيين.. كنا سننتصر لولا الخيانة".
كنت مع أصدقائى نتجمع حوله أحياناً كى يحكى لنا، ونشاغبه بالتشكيك فى رواياته، وأحياناً كان يثور ويشتمنا ويهرول خلفنا بعصاه وهو يقول: "يا أجيال خايبة وطرية يا ولاد ..... "، وكنا نضحك، ولكننا نعود إليه فى يوم آخر فيقبل علينا وكأن شيئاً لم يحدث، ونستدرجه كى يحكى لنا فيحكى، ولكنه كان دائماً شديد الانتباه عندما تقترب الساعة من التاسعة مساءاً، حيث يهرول إلى المقهى باهتمام شديد كى ينصت إلى نشرة أخبار التاسعة، وويل لمن يتكلم أو يحدث أى ضجة أثناء ذلك، حيث ينقض عليه عم فرج بأحط الشتائم، وقد يتطور الأمر إلى تشابك بالأيدى.
كنا أحياناً نسأله عن سر إهتمامه بنشرة التاسعة على وجه الخصوص، فيرفع ذقنه ويغمض عينيه وتنبسط أساريره، ثم يغمغم وكأنه يحلم: "أنا مستنى خبر.. خبر مهم جداً "، ولكنه كان يرفض دائماً الإفصاح عن هذا الخبر المنتظر، يهز رأسه بشدة وهو يقول : " الخبر ده يا أولاد ها يغير حياتى.. ها يغير حياتكم كلكم، أصبروا وها نسمعه سوا ".. وأنتظرنا معه طويلاً، ونحن نتعجب من هيئته أثناء تلاوة نشرة الأخبار، فهو يسكن تماماً، يوجه أ ذنه اليمنى فى اتجاه المذياع، وما أن تنتهى النشرة حتى تبدو على وجهه ملامح الغضب والتبرم، ويصبح سيئ المزاج، فيشتم النادل ويتعارك مع الذباب، وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة.
كان عم فرج ظاهرة من ضمن ظواهر طفولتنا، وأستمر نادرة نتذكرها على مر السنين بعد أن غادر معظمنا حى العباسية وفرقت بيننا ظروف الحياة، كل ما كنا نعرفه عنه أنه يعيش فى بدروم إحدى العمارات فى الميدان، ويعمل كل شيئ تقريباً، فهو بواب نفس العمارة، وهو نجار وميكانيكى وعامل نظافة، بل وأحياناً يتطوع لتنظيم المرور حين يختنق الميدان، لم نعرف له زوجة أو أولاداً أو أقارب، لم تكن له أى عادات مستقرة، فهو لا يدخن ولا يشرب ولا يستقر فى مكان إلا تواجده فى المقهى فى أوقات مختلفة كى يشرب كوباً من الحلبة الحصى، ويقرأ فى صحيفة قديمة، الشيئ الثابت فيه هو إهتمامه الغريب بنشرة التاسعة مساءاً.
منذ يومين التقيت مصادفة مع أحد أصدقاء الطفولة فى النادى، تحدثنا عن الأولاد الذين كبروا، والمشاكل اليومية، ثم عدنا لبعض ذكرياتنا، وبطبيعة الحال تذكرنا عم فرج، وفوجئت بصديقى يخبرنى أنه لا يزال فى نفس المكان، واتفقنا على الإلتقاء فى اليوم التالى والتوجه سوياً إلى العباسية.
كم تغيرت العباسية !!.. تلك الضاحية الجميلة ذات الحدائق الغناء، أكل عليها الزمن وشرب، وكأن عاصفة هوجاء قد حملت إليها الفوضى والتراب وسوء الأخلاق، ورغم أن الوقت كان مساءاً إلا أن الميدان كان مزدحماً بالسيارات من كل نوع، وعربات الكارو والباعة الجائلين والأطفال.
توجهنا إلى المقهى القديم، فوجدناه بدوره قد فقد رونقه، إلا أننى كدت أتصلب فى مكانى، فقد كان هناك فى نفس الركن الذى اعتاد أن يجلس فيه قبل عشرات السنين، بنفس الهيئة والملابس.
اقتربنا منه وألقينا عليه السلام، فرفع رأسه إلينا مندهشاً، بينما كنا نجذب مقعدين كى نجاوره، بدا متحفزاً وهو ينقل عينيه الضيقتين بيننا، وأوشك أن يفتح فمه حين قال له صديقى متبسماً : " ألا تذكرنا يا عم فرج ؟ ".. ثم حكى له بعض صفحات طفولتنا وأسماء بعض من ماتوا.. كنت أدقق فى ملامحه مذهولاً مما أراه، فالزمن لم يغير فى هذا الرجل شيئاً، سوى بعض خطوط التجاعيد البسيطة تحت جفنيه، وتعرق يديه بشكل واضح، ولكنه هو كما هو دون تغير.
استدرجناه كالعادة حتى انساق وطفق يحكى عن فلسطين والفالوجا وعبد الناصر والأسلحة الفاسدة والهدنة والخيانة.. سألته عن رأيه فى حرب 67 وحرب 73، ولكنه عاد للحديث عن حرب 48، وكأن زمنه قد توقف عند هذه الحرب، سأله صديقى عن الأوضاع الحالية، فهز رأسه وهو يحكى عن أيام كان صحن الفول بقرش تعريفة، يكفى أسرة كاملة، وعلى مقربة منا كان بعض الشباب يجلسون وهم يهللون ويحدثون ضجة هائلة، فالتفت عم فرج إليهم وهو يشتمهم بأقذع الألفاظ ويبدى التأهب للنهوض بينما كانوا يضحكون ويقول له بعضهم : " يا اخى خليك فى الفالوجا وسيبنا فى حالنا "، وتطورت المسألة رغم تدخلنا، حيث اندفع نحوهم وهو يقذفهم بالطوب فهرولوا بعيداً عن المقهى، نظرت إلى صديقى وضحكنا، فعلاً لم يتغير الزمن.. كان ذلك بالضبط يحدث معنا قبل عشرات السنين.
عاد إلينا عم فرج وهو يلهث، وجلس مصفقاً بيديه كى يستدعى صبى المقهى، وما أن حضر حتى أمره أن يرى ما نطلبه، ولم ننجح فى الرفض فقد أصر على أن نشرب شيئاً على حسابه، وهو يغمغم : " الاشيا معدن والحمد لله.. لازم تشربوا على حسابى".
لقد تآكل معطفه الكاكى، وتمزق حذاء الجيش الضخم وحال لونه، إلا أن نفس البريق العجيب كان يتألق فى عينيه الضيقتين، ونبراته الحماسية لم تفقد حرارتها، وكان يتحدث عن شباب اليومين دول وخيبة الأمل فيهم، عن قلة الحياء والأدب، عن القذارة , و ... مرة واحدة قفز من المقعد مندفعاً إلى داخل المقهى بين دهشتنا، طلب بخشونة أن يصمت الجميع وهو يطلب رفع صوت المذياع ... نظرت إلى الساعة ... كانت التاسعة مساءً.
عضو اتحاد الكتاب المصرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.