تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغيير أبيض فى بيت أسود
حال الدنيا
نشر في اليوم السابع يوم 14 - 11 - 2008

وبعد أن طاردت أمريكا دول العالم مدعية أنها رسول الشفافية والاستقامة المالية إذا بمؤسساتها المالية تنكشف فى حالة تلبس بالغش والتدليس وتزوير الميزانيات والتدليس على المستثمرين الأجانب تحديدا من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط تحت وهم حصولهم على أرباح أكبر من شراء مشتقات مالية انفردت بها أمريكا فإذا بهم يخسرون أموالهم ذاتها فى غمضة عين.
لنبدأ بالجانب الرومانسى من القصة.. فى أفلام الأبيض والأسود يدور الصراع مثلا بين الفقر والغنى، وينتهى الفيلم بمحمد عبد الوهاب يغنى «محلاها عيشة الفلاح.. متهنى وبيبات مرتاح». يعنى: الفقر نعمة وراحة بال، يابختهم الفلاحين.
فى الأفلام الملونة تفوقت هوليوود أحيانا بجرعة زائدة من الرومانسية. فى سنة 1967 مثلا أنتجت فيلما أمريكيا ملونا بعنوان «توقع من القادم على العشاء».. بطولة سيدنى بواتييه وسبنسر تراسى وكاترين هيبورن، ولا أتذكر اسم البطلة، الفيلم عن فتاة أمريكية بيضاء وجميلة تقع فى غرام طبيب أمريكى أسود ووسيم التقته فى جامعة هاواى واتفقت معه على الزواج. والداها عرفا منها كل شىء عن الضيف الذى دعته هى على العشاء لتقدمه إلى أسرتها، فقط عند وصوله فوجئ الوالدان بأنه... أسود، ومن هنا تبدأ الذروة الدرامية للفيلم، العريس كامل الأوصاف راقى التعليم محترم المهنة متميز الشخصية إنما... أسود البشرة ؟ لا.. لا.. لا.. هذا كثير.
حجج كثيرة فى الفيلم، وحجج مضادة.. الفتاة البيضاء تقول لأبويها مثلا إنهما إذا وافقا على إتمام هذا الزواج فإن «أولادنا المختلطين عرقيا سوف يكبر كل واحد منهم ليصبح رئيسا للولايات المتحدة، وستكون إدارتهم متعددة الألوان أيضا». النهاية السعيدة فى الفيلم بدت بمثابة تعويض نفسى للملايين من الأمريكيين السود (يمثلون 3.12 فى المائة من السكان) عن كل ما يجرى من تمييز ضدهم مستمر ومتراكم طوال أربعمائة سنة منذ جرى جلب أجداد أجدادهم من إفريقيا عبيدا مقيدين فى السلاسل، الفيلم جذاب وملون وخلاصته للمواطن الأمريكى الأسود: لا تيأس، حقك فى المساواة محفوظ، أقله فى خيال السينمائيين، أما من حيث الواقع.. فالصبر مفتاح الفرج.
المشكلة هى أنه حتى سنة 1967 تحديدا كان مثل هذا الزواج المختلط ممنوعا ومحرما فى أمريكا بحكم القانون فى كل ولايات الجنوب الأمريكى، ومكروها بحكم المشاعر فى ولايات الشمال، المحكمة العليا ألغت هذا التحريم فى سنة 1967، لكن القانون شىء والواقع شىء آخر.
فى الواقع لدينا شاب من كينيا اسمه حسين أوباما ذهب إلى هاواى فى أمريكا فى بعثة دراسية، وفى سن ماتزال ترى أن كل البشر متساوون، أو يجب أن يكونوا متساوين، تزوج هذا الشاب من فتاة أمريكية بيضاء من ولاية كانساس، كان هذا بعد سنة واحدة من حدث جلل ارتجت له أمريكا وجرى فى ولاية كارولينا الشمالية، فتاة صغيرة بيضاء، وبكل براءة، قبلت طفلا أسود صديقا لها وفى سن التاسعة، قبلة عابرة على خده، وعلى الفور قبضت الشرطة على ذلك الصبى وصاحبه الذى هو أسود آخر فى سن السابعة، وفى المحكمة أصدر القاضى حكما بسجن الصبى الأسود لمدة 12 سنة والتهمة هى: محاولة اغتصاب فتاة بيضاء.
الشاب القادم من كينيا، والشابة البيضاء من ولاية كانساس تزوجا بغير رضا والديها اللذين كانا لا يطيقان كل من هو أسود، إلى درجة أن والدة العروس كانت تتفادى الذهاب إلى عملها فى الأوتوبيس حتى لا ترى وجها أسود، النتيجة: انفصل الزوجان بالطلاق، وعاد الزوج إلى بلده فى العالم الثالث، عاد إلى كينيا، لكن ثمرة الزواج كانت طفلا ولد فى سنة 1961 اسمه باراك وأصبح عمره سنتين، بعدها تزوجت والدة باراك من جديد بمهندس بترول إندونيسى ورحلت معه برفقة ابنها إلى إندونيسيا حتى بلغ العاشرة فأعادته إلى أمريكا ليعيش فى كنف والديها.
هذا الابن باراك تلقى تعليمه الابتدائى فى إندونيسيا، ثم تعليمه الثانوى بمدرسة أمريكية فى هونولولو لا يدخلها عادة سوى أغنياء البيض القادرين على دفع مصروفاتها، باراك حسين أوباما لم يكن من عائلة ثرية لكنه التحق بالمدرسة بفضل منحة دراسية حصل عليها لانتمائه إلى أقلية عرقية، وهو تطور كان الفضل فيه لحركة الحقوق المدنية التى قام بها الأمريكيون السود بقيادة مارتن لوثر كينج (الذى اغتيل هو نفسه سنة 1968 انتقاما من حلمه بمساواة السود مع البيض). الشاب الطموح المتفوق فى دراسته باراك حسين أوباما التحق بعدها بجامعة كولومبيا، ثم بجامعة هارفارد، وأصبح فى 1991 أول أمريكى من أصل إفريقى يصبح رئيسا لتحرير مجلة هارفارد للقانون، بعدها الزواج، ثم الفوز بمقعد فى مجلس الشيوخ المحلى بولاية إلينوى سنة 1996، وبعد أربع سنوات فاز بمقعد فى مجلس الشيوخ الفيدرالى بفضل دعم حزبه الديمقراطى وكان من أبرز من ألقوا خطابات الحزب فى المؤتمر الذى انتخب جون كيرى كمرشح للرئاسة سنة 2000.
الآن فى سنة 2008 تابع العالم سباقا انتخابيا مثيرا بين جون ماكين مرشحا للرئاسة عن الحزب الجمهورى الحاكم وباراك حسين أوباما مرشحا عن الحزب الديمقراطى المعارض، السباق كان صاخبا ومكلفا ومرهقا ومليئا بالمفاجآت والتحولات والإثارة بما جعل الشعب الأمريكى منقسما بشدة فأمامه لأول مرة أمريكى أسود مرشحا لرئاسته.
السباق الانتخابى امتلأ أيضا بالكثير من الضرب تحت الحزام، فبرغم أن أوباما نفسه تحاشى استخدام اسم والده مُركزا على أنه من الآن فصاعدا هو «باراك أوباما»، وتحاشى أيضا إثارة أى قضايا تتعلق بالتمييز ضد السود، إلا أنه فى ولاية فلوريدا مثلا كان أحد شعارات الجمهوريين هو «نعم لماكين.. لا لحسين» تذكيرا للناخبين بأن والده الراحل كان مسلما. يعنى من الأعداء، باراك أوباما نفسه، ومنذ صباه، أصبح مسيحيا كاثوليكيا وينتمى إلى كنيسة محددة لها قس أسود محدد. هنا تحول الضرب تحت الحزام إلى هذا القس الأسود: كيف ينتمى باراك أوباما إلى ذلك القس المنسوب إليه!.. أقوال ناقدة لسياسات أمريكا، يعنى: أوباما بالتبعية ناقص الوطنية فى أقل القليل، إن لم يكن أكثر.
بحكم العولمة وتكنولوجيا الاتصال والتغطيات الفضائية على الهواء لم تعد انتخابات الرئاسة هنا مسألة أمريكية فقط وإنما دولية أيضا، هذا ليس من فراغ، فأمريكا دولة عظمى فى هذا العالم وهى مؤثرة فيه بخيرها وشرها، وفى إحدى انتخابات الرئاسة الأمريكية التى تابعتها صوتا وصورة فى نيويورك اكتشفت أننى تسمرت أمام التليفزيون ليلة التصويت حتى الصباح التالى، وحينما ذهبت ظهرا إلى مبنى الأمم المتحدة، بعينين حمراوين وجسد مرهق، وجدت نفس الملامح فى كل من أعرفهم من رؤساء الوفود، حتى الذين تعانى دولهم من سياسات أمريكا.. بعضهم تابعها من باب «اعرف عدوك»، وبعضهم من باب احذر حليفك.
المتابعة العالمية لانتخابات الرئاسة الأمريكية فى هذه المرة أكبر وأكبر لأن أمريكا كدولة أصبحت أخطر وأخطر، وبفوز باراك أوباما تنفس العالم الصعداء.. ولو إلى حين، لكننى سأتوقف تحديدا عند ثلاثة ردود أفعال، فى إندونيسيا مثلا احتفل زملاء أوباما فى المدرسة الابتدائية بنجاحه، فلعله نجاح أيضا لمدرستهم الإسلامية، وفى جنوب إفريقيا أطلقت وسائل الإعلام على أوباما لقب «ابن العم» واتصل به رئيس الدولة مهنئا ومقررا اعتبار الخميس 6 نوفمبر يوما وطنيا فى جنوب إفريقيا، وأعطت محطات الإذاعة والتليفزيون فترات مفتوحة على الهواء ليذيع المواطنون برقياتهم لتهنئة أوباما كأول إفريقى تنتخبه أمريكا رئيسا لها. أما فى كينيا التى كان والد أوباما الراحل أحد مواطنيها وما تزال تعيش فيها جدته لأبيه، فقد احتفل البلد كله بالمناسبة وقرية جدته، وأخوه غير الشقيق بالغناء والرقص وذبح الدجاج والأغنام... إلخ.
هذا يعيدنا إلى الجانب الرومانسى من القصة، نحن هنا أمام شاب من أصل متواضع وأقلية ملونة فى أمريكا استطاع بطموحه وتفوقه الدراسى واجتهاده وإصراره ومثابرته أن يخترق كل حواجز العرق واللون والثروة والسلطة ليحقق انتصارا انتخابيا كاسحا ويفوز بأعلى منصب فى أمريكا.. القوة العظمى المنفردة فى العالم، يا إلهى.. كم القصة جميلة والحياة حلوة والمستقبل مشرق ولا يأس مع الحياة وأمريكا أصبحت أجمل أمام شعبها وأكثر تصالحا أمام عالمها.. وكم أنت عظيمة أيتها الديمقراطية.
هنا تنتهى الرومانسية وتبدأ السياسة، بالتأكيد الديمقراطية عظيمة وهى أسهمت بالطبع فى نجاح أوباما، لكن الشعب الأمريكى الذى انتخب باراك أوباما لم ينتخبه قطعا لأن أباه مسلم ولا لأن جذوره من إفريقيا ولا لأن لونه أسود.. الواقع أن أوباما فاز برئاسة أمريكا بالرغم من تلك الصفات الثلاث وليس بسببها، ثم إن الأغلبية اللافتة التى انتخبته كانت أساسا من الأمريكيين البيض. مواطنون صالحون اكتشفوا أن حزب السلطة ألحق بهم الخسائر داخليا بانحيازه الصارخ إلى كبار الأغنياء على حسابهم كطبقة متوسطة وعاملة، وألحق ببلدهم الأضرار خارجيا بمشروع امبراطورى كان الدافع إليه هو جشع وتسلط نفس كبار الأثرياء. وبتلك الرؤية أصبح إسقاط ذلك الحزب الحاكم وسياساته هو الأولوية العاجلة.
أكثر من ذلك، وبتعبير مايكل دايسون، وهو أمريكى أسود يعمل أستاذا لعلم الاجتماع بجامعة جورج تاون، فإنه «بخلاف ما يعتقده معظم النقاد فإن انتخاب أوباما لا يعنى انتهاء العنصرية من المجتمع الأمريكى» لكنه بالطبع خطوة بارزة على الطريق.
البعض قال إنها خطوة استثنائية قد لا تتحقق فى أمريكا إلا كل قرن، هذا وارد لأن الذى دفع بأوباما إلى كرسى الرئاسة هو بالأساس أزمة مالية لا يحدث مثلها إلا كل قرن، ثم إن باراك أوباما خاض سباقا رئاسيا فى انتخابات تعتمد على المال والتحالفات والإعلام والتنظيم الدقيق، والحزب الديمقراطى تبنى أوباما حينما أدرك بعد تردد طويل أنه يمكن فى الظروف الراهنة أن يصبح ورقة رابحة، لقد أصبحت تلك الحملة الانتخابية هى الأعلى تكلفة فى تاريخ أمريكا، فحتى قبيل الانتخابات بأسبوعين أنفق المرشحان المتنافسان 1552 مليون دولار، وهو مبلغ يعادل تقريبا مجموع تكلفة الانتخابات الرئاسية فى سنتى 2000 و2004، وهو يفوق بثلاث مرات ما أنفق فى انتخابات 1996، حملة أوباما تكلفت من هذا المبلغ 963 مليون دولار تمكن أوباما وفريقه من جمع 640 مليون دولار منها.
نحن هنا أمام انتخابات أمريكية تحولت منذ وقت طويل إلى صناعة بحد ذاتها، صناعة تعتمد على جيش من الخبراء وشركات التسويق والدعاية والمدربين على الخطابة والعلاقات العامة.
وخبراء الماكياج والتجميل و.. و.. المال فى كل هذا أساسى والتحالفات ضرورية وحسن الإدارة جوهرى والإعلام أيضا انحاز فى معظمه إلى أوباما فى المرحلة الأخيرة، خصوصا منذ منتصف سبتمبر حينما أفاقت أمريكا على أكبر أزمة مالية فى تاريخها منذ قرن كامل وتوابعها من إفلاس وبطالة وخراب بيوت.
تلك الأزمة كشفت فجأة كل ما أصبح قبيحا فى «الحلم الأمريكى»، هناك مليونا أمريكى مهددون بالطرد من منازلهم لعجزهم عن سداد أقساط الرهن العقارى، ربع مليون مواطن فقدوا وظائفهم فى شهر أكتوبر وحده إضافة إلى عشرة ملايين آخرين سابقين وملايين أخرى لاحقة بسبب إفلاس شركات وانكماش مصانع، ملايين أكثر وأكثر مهددون بمصادرة ممتلكاتهم بعد أن أغرتهم البنوك والشركات الأمريكية بالحصول على بطاقات ائتمان (ماستر كارد وفيزا كارد وغيرهما) والشراء الاستهلاكى المتزايد دون التحسب للعواقب. أكثر من ذلك.. ملايين المتقاعدين من أصحاب المعاشات فوجئوا بأن معاشاتهم تبخرت لأن الصناديق التى اشتركوا فيها لسنوات طويلة قامرت بمدخراتهم فى البورصة بحجة استثمارها فراح الجلد والسقط.
وبعد أن طاردت أمريكا دول العالم مدعية أنها رسول الشفافية والاستقامة المالية إذا بمؤسساتها المالية تنكشف فى حالة تلبس بالغش والتدليس وتزوير الميزانيات والتدليس على المستثمرين الأجانب تحديدا من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط تحت وهم حصولهم على أرباح أكبر من شراء مشتقات مالية انفردت بها أمريكا فإذا بهم يخسرون أموالهم ذاتها فى غمضة عين.
فى السباق الانتخابى الأمريكى هذه المرة كان جون ماكين مرشح الجمهوريين، ورأى الناخب العادى أن فى نجاحه مكافأة لجورج بوش عن كل هذا الغش والتدليس ومحاباة كبار الأثرياء المستمرة لثمانى سنوات، ومن هنا كان واضحا منذ منتصف سبتمبر أن المزاج الانتخابى يريد قبل كل شىء معاقبة حزب السلطة، لأنه أوهم الناخبين طوال ثمانى سنوات بأن إغراق الأثرياء بالامتيازات والإعفاءات الضريبية هو لمصلحة الفقراء.. فانتهى الأمر بكل هذا الخراب.
فى المقابل كان باراك أوباما وحزبه الديمقراطى عائما ومطاطا فى برنامجه الانتخابى، لكن من الأشياء القليلة التى كان محددا وواضحا فيها التزامه تخفيض الضرائب على 95 بالمائة من العائلات الأمريكية وزيادة الضرائب على العائلات التى يزيد دخلها السنوى على 250 ألف دولار، ثم إنشاء صندوق بخمسين بليون دولار لحماية مليون مواطن من البطالة ومعاقبة الشركات التى تتيح فرص عمل للأجانب على حساب المواطنين الأمريكيين و..و.. كل هذا فى انقلاب واضح على سياسات الحزب الحاكم الذى شغل نفسه فى سياق الأزمة المالية بإنقاذ نفس المؤسسات التى مارست الخديعة طوال سنوات، وليس بالبطالة التى دفعت إليها بملايين المواطنين، وبتعبير شاب أمريكى فى إحدى المدونات: دعونا ننحى جانبا أسطورة أننا انتخبنا أوباما لأنه يعبر عن الوسط، فى هذه الانتخابات أعطينا أصواتنا لمرشح قال إنه سيفرض الضرائب على الأغنياء وسيضاعف الإنفاق على الرعاية الصحية ويعالج البطالة وسيسحب قواتنا من العراق.
تلك مسائل عملية ومحددة لا يطلبها الناخب الأمريكى من أوباما لأنه أول أسود فى البيت الأبيض، فلنترك أصله وفصله ولونه لأفلام السينما، إنما فى أرض الواقع أساس التصويت الغاضب الذى جرى هو تغيير السياسات السائدة داخليا وإخراج أمريكا من مشروعها الإمبراطورى خارجيا. وفى كل الحالات فإن المقاومة التى واجهها ذلك المشروع الإمبراطورى الأمريكى فى العراق وإيران وآسيا الوسطى مع الأزمة المالية هى ما دفع الحزب الديمقراطى إلى رفع شعار «التغيير» عنوانا للانتخابات.. وهو العنوان الذى أدخل أوباما والحزب الديمقراطى البيت الأبيض.
آسف، هذا تغيير أبيض فى «بيت أسود». هو أبيض بمعنى أنه جرى من خلال صناديق الاقتراع، وهو فى بيت للسلطة اسمه الرسمى منذ سنة 1901 «البيت الأبيض» لكن سياسات جورج بوش جعلت العالم فى معظمه يراه «بيتا أسود» ومن الآن فصاعدا.. فإن ما سيصبح على المحك هى سياسات الرئيس الجديد، وليس لون بشرته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.