هذا العنوان ليس من عندي, بل هو عنوان خطاب حفل تخرج الدفعة139 لكلية اللاهوت الإنجيلية, بالقاهرة, وألقاه ضيف الحفل الدكتور القس وفيق وهيب الأستاذ المساعد للدراسات المسيحية العالمية بجامعة تندل بكندا, وهو واحد من أبناء الكنيسة الإنجيلية بمصر ومن الوجوه المشرفة في جامعات العالم, وقد رأيت أن أقدم فكرة الخطاب في هذا المقال, علها تذكرنا برسالة ودور الكنيسة والمؤسسة الدينية عموما في العصر الذي بدأ نعيش فيه, عصر ما بعد الحداثةPOST-MODERNITY دخل العالم في العقد الأخير من القرن الثامن عشر عصرا جديدا أطلق عليه العصر الحديث, أو عصر التنوير, والذي بدأ فيه الفلاسفة والمفكرون في أوروبا دعوة الناس لاستخدام العقل, وكان الشعار هو العبارة الشهيرة التي أطلقها رينيه ديكارت أنا أفكر إذا أنا موجود, ومن هنا بدأ التنوير واستخدام العقل في البحث والتحليل واكتشاف العالم, وبدأ العلماء سلسلة من الاختراعات والاكتشافات التي شكلت العصر الحديث بكل ما فيه من انجازات عظيمة في مجالات العلم والطب والهندسة والفضاء إلي آخره. ونتيجة لهذه الانجازات أصبح لدينا القدرة علي اكتشاف أعماق جديدة في الكون, إجراء عمليات جراحية معقدة, واستخدام أنواع مختلفة من الطاقة في التصنيع, وتوفير سبل معينة حديثة ومتطورة, والقدرة علي السفر بالطائرات وغزو الفضاء, والتغلب علي الكثير من الصعاب الطبيعية, وتشخيص وعلاج الامراض. لقد اتسم العصر الحديث بالبحث العلمي والتفكير الموضوعي, وأصبح العقل والتفكير العقلاني المصدر الرئيسي للتفرقة بين الواقع والخيال أو الحقيقة والوهم, فلا مجال للخرافات والاساطير كما كان في عصر ما قبل الحداثة. لقد كان للعصر الحديث تأثير كبير علي الدراسات اللاهوتية وعلي حياة الكنيسة, فمنذ القرن التاسع عشر بدأ اللاهوتيون في الغرب في البحث ودراسة اللاهوت بأسلوب متميز, وكانت لهم كتاباتهم التي أثرت في حياة الكنيسة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في علم التفسير وتاريخ الكنيسة والدراسات الكتابية المدعمة بحفريات وأدلة تاريخية وأبحاث مدققة. وهكذا أسهمت الدراسات اللاهوتية المتعمقة في تنوير الفكر وصياغة حياة أفضل للإنسان, كما استوعبت الكنيسة اسلوب العصر الحديث في النظام والإدارة. مع بداية القرن العشرين كان هناك احساس عام أن البشرية في طريقها الي التقدم والحضارة والرفاهية والحرية, وساد إحساس عام في العالم بأن البشرية في تقدم, وأن باستطاعتنا أن نجد حلا لكل مشكلة وعلاجا لكل مرض, وأنها مسألة وقت حتي يسيطر الإنسان علي كل شيء في الكون, ولكن من منتصف القرن العشرين تبدلت الصورة تماما, فالغرب الذي قاد العالم للتقدم والحرية والرفاهية دخل في حروب ضارية دمرت الكثير من المدن الحديثة, وقضت علي حياة الملايين من البشر في كل مكان في العالم. وفجأة أدركت البشرية أن التقدم العلمي والتفكير العقلاني وحده ليس كافيا لسد كل احتياجات الإنسان. صحيح أن الإنسان في العصر الحديث امتلك كل أنواع التقدم والرفاهية, لكنه أيضا دفع ثمنا غاليا لهذا التطور من ساعات طويلة في العمل, وثورة توقعات استهلاكية لا تنتهي, ومعاناة في التنقل, ومشكلات أمراض القلب والأعصاب, وآلام المعاناة النفسية وتفكك الأسرة. ومع نهاية القرن العشرين سري إحساس عام بين الناس مفاده أن العلم والتقدم والتفكير العقلاني مع أهميته وكامل تقديرنا له, إلا أنه وحده لم يحقق للإنسان السعادة الحقيقية والمصالحة الداخلية والحرية التي طالما سعي إليها. وهكذا شعر الإنسان بالفراغ النفسي والروحي الذي لا يمكن أن يشبع بالماديات, وبدأ البحث في كل مكام عن الاحتياج الروحي الذي يملأ هذا الفراغ. ومع نهاية القرن العشرين دخل العالم فيما يسميه علماء الاجتماع السياسي عصر ما بعد الحداثة. فما هي بعض سمات هذا العصر وما هي رسالة الكنيسة والمؤسسات الدينية منه؟ عصر ما بعد الحداثة يقبل ويؤكد استمرارية البحث العلمي واستخدام العقل, كما يؤكد أيضا أن الناس اليوم يتساءلون عن معني وهدف الحياة التي نعيشها, وعم الرضا النفسي والراحة الداخلية التي يسعون إليها وسط معاناة وضغوط العالم الذي نعيش فيه. وكذلك لا يعرف هذا العصر حدودا للدول, ولا يتبع بالضرورة النظم والقوانين السابقة. إنه عصر المعلومات والاتصالات عبر الإنترنت. لقد اصبح لكل إنسان حق في الحصول علي المعلومات, واستخدام الوسائل الحديثة للاتصالات والصفقات إلي آخره. يشهد هذا العصر أيضا تغيرات سريعة علي جميع المجتمعات بما فيها الشرق الأوسط. من هذه المتغيرات العولمة بكل تجلياتها, فما يحدث في أي مكان في العالم يؤثر علي باقي الدول كما رأينا في المجال الاقتصادي والأزمة العالمية مثلا, أيضا من هذه المتغيرات التحضر المدني والزيادة السريعة في أعداد السكان الذين يسكنون في المدن( كالقاهرة مثلا) وما يترتب علي ذلك من تحديات. عصر ما بعد الحداثة هو عصر تفجر العنف علي كل المستويات, عصر الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية, والانهيار الاخلاقي, والتفكك الاجتماعي والأسري. عصر الفراغ الروحي والديني والبحث عن كل ماهو جديد ليملأ هذا الفراغ, وبالتالي الاستغراق في الشكل علي حساب المضمون, والحرفية علي حساب العمق وآلام وتحديات الواقع المعاش, والروحنة الضحلة علي حساب الروحانية والاستنارة. السؤال الكبير الآن: في عصر هذه سماته وقسماته الواضحة, ما هي رسالة الكنيسة ودور المؤسسة الدينية كيف تستخدم الكنيسة في عصر المعلومات والاتصالات الوسائل الحديثة لتصل الأخبار السارة لكل الناس في كل مكان؟ وفي عصر البذخ والاستهلاك والثراء السريع والفقر المدقع, كيف تؤكد الكنيسة أن قيمة الإنسان ليست فيما يملكه أو في مكانته الاجتماعية, بل في كونه إنسانا كرمه الله وأعطاه القدرة علي التفكير والإبداع, وأن يكون مسئولا علي خليقته ليحفظها ويعملها؟ في عصر التحضر المدني والزيادة السريعة لسكان المدن كيف نواكب هذه الزيادة بخطة واضحة لخدمة المدينة؟ وفي عصر العولمة والسماوات المفتوحة كيف نتواصل ونتعلم من خبرات الآخرين في العالم بما يتناسب مع فكرنا ومع مجتمعنا؟ وفي عصر الأزمات والضغوط والتمزق والتفكك والضياع والفراغ, علي الكنيسة أن يكون لها قلب المسيح المحب, وأن تتحنن علي المنزعجين والمنطرحين بلا رجاء, وأن تكون كسيدها الذي تحنن علي الجموع فأشبع الجياع وشفي المرضي وغفر الخطايا وأقام الموتي وحرر الإنسان وأعاد إليه انسانيته المهدرة. وفي عصر التفتت والاضطرابات السياسية والاجتماعية والتعصب ورفض الآخر, علي الكنيسة أن تساعد في توفير المناخ الملائم للعيش المشترك في سلام وأمان, وأن تركز علي التسامح والتعددية والمصالحة مع الله ومع النفس ومع الآخرين, وأن تقدم مفهوما جديدا للقوة مفاده أن القوة الحقيقية ليست في تدمير الآخرين, ولكن في القدرة علي التغيير والخلق والتجدد وضبط النفس. وفي عالم يعيش حالة من الاغتراب ولا يعرف إلي أين يذهب, فقد فيه الناس الثقة في كل شيء, في الأنظمة السياسية والاقتصادية ورجال الدين والمستقبل الآمن, لا يتطلع الناس إلي الخطاب الديني التقليدي, ولا إلي الخطب الرنانة التي فقدت تأثيرها, ولا الي التقريع والترهيب بل إلي مثل صادق ونموذج حي وحياة معاشة تشع بنور الايمان وثقة الرجاء وعطاء المحبة, الي كنيسة تخدم وتحلم بحياة أفضل لشعبها ومجتمعها.