لم يدرك رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم( الفيفا) جوزيف بلاتر مغزي الاستنفار السياسي الذي حدث في فرنسا بسبب الخسارة المهينة التي لحقت بمنتخبها لكرة القدم في مونديال جنوب افريقيا. فقد خرج المنتخب الذي فاز بالمركز الثاني في مونديال المانيا2006 من الدور الاول بعد أداء متدن فنيا ومنحط اخلاقيا. لم يستوعب بلاتر أن خسارة فرنسا مجتمعا ودولة هي أكبر من هزيمة منتخبها الكروي في مسابقة رياضية حتي اذا كانت هذه المسابقة هي الأكثر أهمية علي المستوي الدولي ولذلك بدا رئيس الفيفا مدهوشا إزاء تدخل سياسي فرنسي في شئون اللعبة لا سابق له في حجمه وكثافته وعمقه, بدأ هذا التدخل بإعلان الرئيس نيكولا ساركوزي غضبه الشديد لأداء منتخب بلاده, وتصريح وزيرة الشئون الرياضية روزلين باشلو بضرورة إعفاء رئيس رئيس اتحاد الكرة جان بيار اسكاليت بالرغم من أنه منتخب بشكل ديمقراطي وفي بلد يعرف حكامه معني الانتخابات ودلالتها.وكان المشهد غريبا للغاية عندما عقد الرئيس ساركوزي اجتماعا مع قائد منتخب بلاده الكروي تييري هنري استمر لأكثر من ساعة لكي يعرف تفاصيل أمر لايدخل في نطاق اختصاصه, ولايصح له التدخل فيه وفق قواعد الفيفا. وتضمن هذا الاستنفار اجتماعا عقدته الحكومة لمناقشة أوضاع الكرة الفرنسية ومستقبل منتخب كان يسمي الديوك ولكنه ظهر كما لو أنه يضم دواجن مذبوحة. وامتد الاستنفار من السلطة التنفيذية الي البرلمان اذ استدعت اللجنة المختصة بشئون الرياضة والشباب رئيس اتحاد كرة القدم ومعه مدرب المنتخب ريمون دومينيك للمثول أمامها لمناقشتهما في أسباب الأداء المخزي في المونديال. وجاء رد فعل الفيفا ورئيسه سريعا ومؤسسا علي أحد تقاليده الأساسية وهو أن كرة القدم مستقلة ولاتخضع للسياسة وتوازناتها وأهوائها, وأن العقاب ينتظر أي بلد يخرق هذا التقليد او يخرج عليه. ولذلك أسرع أمين عام الفيفا جيروم فالك بتنبيه المسئولين الفرنسيين الي ضرورة احترام تقاليد اللعبة واستقلالها ووقف تدخلهم في شئونها مع تحذيرهم بأن بلادهم ليست فوق هذه التقاليد, وأنها لن تحظي بمعاملة مختلفة عن البلاد الصغيرة التي عوقبت من قبل بسبب خلط حكوماتها بين الرياضة والسياسة, وبالرغم من سلامة هذا الموقف واستحقاقه الثناء وخصوصا لأنه يساوي بين الدول جميعها ولايضع بعضها فوق بعض درجات يظل مهما وضروريا فهم مغزي التدخل السياسي السافر في شئون الرياضة الاولي عالميا في بلد ذي تقاليد عريقة في احترام الديمقراطية والحدود التي تفصل بين المؤسسات المختلفة. فالتفسير السائد لهذا التدخل يقف عند السطح ولايتجاوز حين يركز علي تأثير فشل المنتخب الكروي الفرنسي علي شعبية الرئيس ساركوزي ومستقبله السياسي, وينطلق هذا التفسير من اعتقاد شائع في أن ساركوزي كان يأمل في تحقيق هذا المنتخب انتصارا ينتشل الفرنسيين من حال الإحباط والغضب التي ترتبت علي بعض سياساته وألحقت بحزبه هزيمة كبيرة في الانتخابات البلدية قبيل المونديال. وساهم تزامن هذا الغضب علي أداء ساركوزي مع فضائح المنتخب الفرنسي في جنوب افريقيا في تركيز الاهتمام علي العلاقة بين أزمة نظام الحكم الفرنسي وتدخله في نظامكرة القدم. غير أن الأزمة التي يجوز ربطها بهذا التدخل هي أبعد من مشاكل نظام الحكم ومستقبل رئيسه وأكثر عمقا من أداء السلطة لأنها تتعلق بتحول سلبي في أنماط التفاعلات المجتمعية, وخصوصا علي المستوي العرقي الديني فقد حدث تدهور ملموس في هذه التفاعلات التي كانت قد شهدت تحولا ايجابيا في أواخر القرن الماضي. وربما يظهر هذا الارتباط بشيء من الوضوح عندما نقارن بين هزيمة المنتخب الفرنسي المدوية عام2010 وانتصاره الكبير حين فاز بكأس العالم عام1998 ونضع هذه المقارنة في سياق التطور الاجتماعي السياسي والتفاعلات المجتمعية. في عام1998 كان الجزائري الأصل زين الدين زيدان هو الأكثر شعبية وصاحب أكبر مكانة في قلوب الفرنسيين الأقحاح وهو الفرنسي المجنس القادم من احدي مستعمرات الفرانكوفون كان زيزو المنحدر من أصل غير فرنسي رمزا في لحظة تكامل اجتماعي توارت فيها الفروق بين أصحاب البلد والوافدين وبين المدن الكبيرة وضواحيها الفقيرة التي تعج بأبناء الهجرة من أصول أفريقية. غير أن هذا التكامل الذي بدا عام1998 أنه تحقق لم يكن أكثر من ارهاصات لم تكتمل ولذلك لم يستطع اللون الازرق الذي يميز المنتخب الكروي أن يستوعب الألوان المختلفة في فرنسا, وخصوصا الأبيض والأسود اللذين انصهرا في الملعب أكثر مما اندمجا في المجتمع فقد كان إنجاز الديوك في مونديال1998 إرهاصا لتغير اجتماعي تشتد حاجة فرنسا اليه لكي تتطابق مع مباديء ثورتها الملهمة من إخاء وعدل ومساواة,كان إرهاصا قويا ولكن قابل للعودة عنه وهذا هو ماحدث في عهد ساركوزي وبدأت مقدماته حين كان وزيرا للداخلية علي نحو قوض أحد الشروط المهمة للتفوق في مجال اللعبة الأكثر شعبية وهو الدعم الشعبي الكامل الذي يجعل المجتمع بيئة حاضنة للمنتخب. فعندما بدأت تصفيات المونديال الأخير كان احتضان المجتمع لمنتخبه الذي جاء نصف لاعبيه علي الأقل من أصول افريقية قد اهتز وكانت سياسة السلطة التنفيذية أحد أهم العوامل التي أدت الي ذلك بما أحدثته من تباعد بين قلب المجتمع وهوامشه الفقيرة والمختلفة عرقيا ودينيا في آن معا أعادت هذه السياسة الشرخ الذي كان قد بدأ في الالتئام عندما عاملت أبناء الهوامش الذين جاء نصف لاعبي المنتخب منهم باعتبارهم مشاغبين يمثلون خطرا لابد من مواجهته. وفي ظل هذه السياسة تغيرت النظرة الي هؤلاء اللاعبين فلم يعد أي منهم مثل زيزو الذي كان رمزا محبوبا وساهم سلوك بعضهم ممن أفسدهم الثراء الشديد في تحويل النقمة المضمرة عليهم الي هجوم سافر بلغ ذروته عندما وصفتهم وزيرة الرياضة بأنهم يشبهون قادة عصابات الضواحي. ولذلك بولغ في صب اللعنات عليهم عندما كشف النقاب عن أن بعضهم أقاموا علاقات جنسية مع بائعة هوي قاصر عشية المونديال الذي ذهبوا اليه بلا روح ولا عزم فساء أداؤهم علي نحو يكشف أحد أهم مواطن الخلل في المجتمع الفرنسي الراهن. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد