ستهب عليك رائحة ريف الدلتا, إذا التقيت عفيفي مطر في وسط المدينة, ستهب عليك محملة بحكايات أهل الخطوة وطيبة الزراع وشراسة صاحب الحق, عندما تلمحه- بشعره الأبيض المنكوش وحقيبته( بقجته) علي كتفه. ستعتقد أن نداهة خطفته وتركته هائما, تسبقه ابتسامته بخطوات, واذا تأملت ملامحه الاخناتونية حاول ألا تزعجك آثار التعذيب علي أنفه الدقيق, لأن نورا قديما يشع من عينيه, تماما كالذي يبعثه الزمرداذا كنت معنيا بالأحجار, ستري تاريخ اجدادك وتضاريس أرضهم وأحزانهم, ستري المصري القديم في طريقه الي هدف نبيل. في الأسبوع الماضي رحل أبو لؤي الي جوار ربه, بعد أن اثمرت قصيدته وظللت الشعر العربي, قصيدته التي جند الذين عذبوه النقاد لتجاهلها, فازدادت قوة, لأنها نبتت في تربة مصرية عفية, تربة غنية بالخرافة والأساطير والتضرع والشجن والغناء, نجح صاحبها بعجنها بالفلسفة والتاريخ والتصوف, ذهب مع الشعر الي شعر آخر, يتحدث الطمي فيه مستعينا ببداهة الزراع وأمومة الأرض وسطوة الخرافة, لم يخضع لابتزاز مدرسة شعر والشعراء التموزيين المختلطة بأفكار البعث الفينيقي, منذ يتحدث الطمي, والجوع والقمر مرورا بكتاب الأرض والدم ومن دفتر الصمت والنهر يلبس الأقنعة وانت واحدها وهي أعضاؤك اندثرت ورباعية الفرح, وحتي ديوان احتفاليات المومياء المتوحشة, اختار عفيفي مطر طريقا صعبا في الكتابة, لأن الشعر- من وجهة نظره- تتطلب قراءته ثقافة لغوية خاصة وتركيز الانتباه وتكثيف وشحذ الذاكرة, وقدرة الخيال علي التفكيك واعادة صياغة العناصر المكونة للقصيدة, لأن الشعر من الابداعات العربية ذات التاريخ التراكمي المتصل, يسهم أوله في تكوين آخره, وتضيء مراحله المختلفة وحركات التجديد فيه بعضها البعض, وتتحول رموزه ومناهج التخييل فيه علي مساحة شاسعة من المنجزات, وكل ذلك يجعله فنا صعب المراس والممارسة وصعب التلقي, ولهذا كانت قصيدة مطر تبدو مغلقة, لأنه كان يسعي لاعادة احياء مفردات في اللغة لفظتها اللغة الاستهلاكية, وكان يجرب ايقاعات تبدو غير متسقة مع الايقاع الذي فرضته الحضارة الحديثة علي الشعراء, كان يقرأ الواقع واحداث الحياة وصور الموت في ضوء البحث الوجداني التكويني لفهم البشر من حوله, وتحليل اللغة الشعرية التصويرية المتداولة علي ألسنتهم, كان يري- وهو دارس الفلسفة- ان الخيال الشعري يقوم علي حركتي هدم وبناء في وقت واحد, اعدام معني المتعينات في الطبيعة وخلخلة وتشويش التأسيس المعرفي للعالم والأفكار, أي البدء مما يقارب نقطة الصفر في المعني والنظام وازاحة التواطؤ والتوافق الضمني بين الشاعر وبين المعتاد والعرفي حتي يتمكن الخيال من رؤية الطبيعة والأفكار في جو من البراءة والوجود الخالص الفارغ من تعيناته وظهوراته, ثم اعادة الصياغة وتكوين العلاقات المفاجئة المدهشة في كيان جديد, هو القصيدة, وعفيفي الناثر استفاد من عفيفي الشاعر في اصابة الهدف, ولكن من أقصر طريق, فكتاب أوائل زيارات الدهشة- والذي كان لي الشرف في تحريضه علي كتابته في الصحافة منتصف التسعينيات- هو من عيون النثر العربي, لأن صاحبه تحرر من سطوة الشاعر الذي لم تتح له فرصة للارتجال خارج الشعر, هو استعان بفطرته الطفولية البعيدة ليعيد قراءة تاريخه حتي سن العشرين, هو سفر بين مواقع الطفولة وأوائل الشباب, محطاته هي لحظات الدهشة التي أقلقته وحولت انتباهه وحددت بعض المعالم في تكوين علاقته بالعالم, عفيفي كتب شعرا كبيرا بلغة كبيرة بروح كبيرة, وربما هنا يكمن الاختلاف معه, فهو يري أن الشاعر بمكانته القديمة مازال قادرا علي القيام بدوره القديم, بينما شعراء الزمن الجديد يرون أن اللغة شفرة بين اثنين, هو يتحدث الي الأمة وهم يبحثون بالشعر عن أصدقاء, هو عليم بأسرار موضوعه, هم يكتشفون العالم بالكتابة, ومع هذا ظل محمد عفيفي مطر, الشاعر والانسان استاذا لمعظم الشعراء الأصغر سنا, لأنه مجرب عظيم, صاحب سيرة نقية, أخلص للشعر ولكرامة الشاعر, وتعامل مع السلطة وشعرائها باستعلاء محبب, أصغره في الحياة, ولكنه أنقذه.. كشاعر.