(1) كانت الشمس تميل إلى المغيب. فى يدى كتاب أطوى صفحاته الأخيرة. موسيقى بحيرة البجعة تملأ فضاء غرفتى المحدود فيزداد اتساعاً. أتأمل من خلف زجاج نافذتى شجرة خريفية تساقطت أوراقها. أرقب حركة الغادين والرائحين. تتسلل إلى وعيى فجأة كلمات أمل دنقل «يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان مطرقين.. منحدرين فى نهاية المساء.. فى شارع الإسكندر الأكبر.. لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إلىّ.. لربما إذا التقت عيونكم بالموت فى عينىّ.. يبتسم الفناء داخلى.. لأنكم رفعتم رأسكم مرة..» لمحت عند نهاية الشارع نفس الرجلين. ضغطت بيديّ على زر الإضاءة لكى أتيح لهما رؤيتى بوضوح. دق جرس الباب. جفلت برهة محاولاً تخمين من يكون ذلك الطارق. شهدى مسافر، ومحمد كذلك، وأمامى نفس الرجلين اللذين أحفظ ملامح وجهيهما جيداً لكنى لم أعرف يوماً من هما، فمن يكون إذاً زائر هذا المساء؟ فتحت الباب. رأيت ناهد. أخذتنى المفاجأة. سرى فى كيانى شعور خاطف بالفرح الممزوج بالقلق. تقدمت ناهد خطوتين. صارت فى مواجهتى تماماً. حاولت جمع مشاعرى المنفرطة. جاءنى صوتها رقيقاً كالعادة: - لماذا اختفيت فجأة! رددت عليها متسائلاً: - وكيف أمكنك العثور على عنوانى؟ أجابت وهى تنتظر أن أدعوها إلى الدخول: أكثير علىّ العثور عليك؟ قلت دون أن أدعوها إلى الدخول: - كلا، إننى أقل من ذلك بكثير! سألتنى فى صوت حنون: - لم تبدو خائفاً؟ لم أرد. لذت بالصمت. قالت ملتاعة: - إنى مهمومة من أجلك. رددت عليها: - وأنا مهموم بأسئلة حيرى وإجابات لا أعثر عليها. قالت فى إشفاق: - ستودى بك الأسئلة الحيرى وستنفق عمرك فى البحث عن إجابات لا تكتمل. هتفت فى فرح: - أنت تدركين إذاً ما أعانيه! قالت وهى تقترب منى أكثر: - فى الدنيا نساء خلقن لمداواة معاناة الغير. ما أسعدنى إذ أفعل ذلك! تراجعت للوراء قائلاً: - وفى الدنيا شقاء لا دواء له اسمه الحيرة! ردت فى سرعة: - للحيرى ملاذ يجهلون مكانه! قلت : - لأنهم حيرى! لم ترد على كلمتى الأخيرة. تكدرت ملامح وجهها الرقيق. لاح فى عينيها انفعال مكبوت. رثيت لها. ساورنى خاطر فيما إذا كان يجب أن أرثى لنفسى! انصرفت ناهد تهبط الدرج الذى كانت تصعده منذ دقائق دون أن نتبادل كلمة واحدة. (2) ناهد طفلة كبيرة وامرأة صغيرة. لم يكن لها عمر، أو لعلى كنت أعرف ثم نسيت. وعلى أى حال فما تفيد الآن سنوات عمرها؟! كانت عيناها ضاحكتين وكانت.. تبتسم مرات فى أسى.. كانت قصيرة.. خطواتها سريعة.. ما إن ترانى حتى تبحث فىّ عن مواطن الألم.. وحين تجتاحنى الحيرة ويغزونى القلق تصبح أمامى فى لمح البصر أماً.. أكاد من فرط دهشتى أن أمد يدى.. أتناول منها لعبة صغيرة. ولمّا يشرق الصباح داخلى.. تلمح بعين خفية سعادتى.. فتهمس أن متى نخاصم الأشياء، والأسئلة، والقيود، والزمن، ونختفى.. وحين يحاصرنى حلميّ الضائع.. فأضع رأسى بين راحتىّ.. يلفها الذهول.. لكنها تشاركنى إطراقتى.. وتتمتم أن متى يارب ينصرف عنا القلق والأسى والخوف.. وتنهزم جحافل التتار مرتين.. ويشرق الصباح ولو فى الليل.. فأصيح وقد هزنى دعاؤها: هل تخلّى الله عن أهل «هيبة منذ حين؟ تركض باحثة لى عن علبة الدواء وهى تردد باكية: إنه الهذيان.. إنه الهذيان! (3) جاءتنى ناهد وقد اغرورقت عيناها بالدموع. لاح فى عينيها المغسولتين بالدموع حمرة قانية أسرتنى. هتفت يا إلهى إنها اللحظة أجمل من كل المرات السابقة. شعرت كما لو كنت موثوقاً إليها بخيوط ضوئية من ألوان قوس قزح. أدركت أننى أعيش لحظة خارقة لقوانين الطبيعة. تأملتها بملء عينىّ. أودعت فيها كل طاقات إبصارى وانفعالاتى وأحاسيسى وغرائزى. نفذت من الوجه والعينين. دلفت من هنا. خرجت من خلف الحمرة القانية. وجدتنى هناك! صرخت فى جزع: أحقاً إننى الآن فى روحها؟! تسللت غير مدرك ما بى وما حولى. نفضت عنى حيرتى. خلعت قلقى. هأنذا أسبح فى العينين المغسولتين بالدموع. لا شىء معى إلا سواراً فضياً يطوّق عنقى. كان الأفق أمامى رحباً. حين أدقق النظر لا أرى شيئاً محدداً. لا شىء قط أمامى. حتى لون الأفق تلاشى. صار بلا لون. ساءلت نفسى: أين السماء وأين الأرض وأين البحر الذى أسكن أمامه؟ عبثاً لا تلتقط عيناى شيئاً محدداً. هتف خاطر داخلي: إنه الوجود. دبّ فىّ إحساس مرتعش خائف بأننى ربما الآن أموت. تذكرت عالمى الضيق. حجرتى فى الطابق الخامس. آلات المصنع الهادرة. رسوماتى. شهدى وجابر. الرجلان اللذان يتبعانى كظلى. مدينتى التائهة نهاراً الراقدة فى إعياء ليلاً. تصببت عرقاً. شعرت بالإجهاد وأن أنفاسى تتلاحق وأن قدمىّ متعبتان. يأتينى صوت ناهد حانياً هامساً أن لا تخف فأنت الآن داخلى. أدور حول نفسى وأمضى فى كل الاتجاهات وما زال صوتها يتردد: أنت الآن داخلى. سرعان ما ألمح ضوءاً بعيداً يتأرجح. أسير نحو مصدر الضوء الخافت. لا أدرى هل كانت ثوانى أم دقائق أم ساعات حتى خرجت ثانية من عينىّ ناهد! تأملتها مرة أخرى. فاهتززت فرحاً. لم تعد عيناها حمراوين تطفو فوق سطحهما الدموع. كانت عيناها صافيتين رائقتين. ابتسمت. قالت لى فى تودد: - إنى أشفق عليك أن تهب حياتك لانتظار ما لا يجىء! رددت عليها بصوت يائس: - إن ذلك على الأقل أهون من معايشة الضجر! قالت فى تعاطف: - لكنك تحلم بالحلم وهذا فوق طاقة البشر. رددت بصوت لاهث متعب: بل قولى إنى سئمت كل الأشياء غير المفهومة فى مدينتى! قالت: - إن قصص الكفاح الإنسانى عامرة بالإثارة فلا تهن! قلت بنفس الصوت اليائس المجهد: - أى إثارة فى مدينة الأقنعة والأصباغ والرجال الأصوات؟! ردت علىّ فى دلال: - بين الحلم والشقاء لا بد لك أن تتذوق الحياة.. وإلا فإنه الموت!! [email protected]