المقصد النهائي للرحلة هو زيارة المنشآت التي كانت تنتج حتي الماضي القريب المواد الانشطارية للأسلحة النووية في موقعي ماركيول وبييرلات. وماركيول هذا هو واحد من عشرة مراكز أبحاث نووية تابعة للجنة الطاقة الذرية. وانشيء في عام1955 وهو يعمل حاليا كمرجعية علمية وإدارية لاختيار مواقع المفاعلات في المستقبل وإدارتها, وذلك بعد التخلي عن شقه العسكري ويبدو أن القدر شاء لي أن أستمتع بالريف الفرنسي الجميل, حيث كانت الحافلة هي وسيلة الانتقال إلي مواقع المفاعلات. عندما اقتربت الحافلة من الموقع ظهرت المداخن التقليدية للمفاعلات النووية, ولكن الملاحظة الغريبة أن الدخان المنبعث منها بدا ثابتا في مكانه لا يتحرك بالرغم من شدة الرياح في ذلك اليوم! ديناصورات نووية! الطريق مواز لنهر الرون الذي يعد واحدا من أكبر واقوي أنهار أوروبا, وهو السبب الذي حدا بالفرنسيين إلي اختيار هذه المواقع لاستخدام مياه النهر في تبريد المفاعلات. منطقة المفاعلات تقع وسط مزارع العنب الفرنسي الشهيرة التي تمتد حتي تلتقي الأرض بالسماء في مشهد بديع. نعود إلي دانيل فيرفيردي الذي قال لي: أنا المسئول عن جميع الأسلحة النووية, وأؤكد أنه لدينا ما يقرب من300 رأس نووي فقط, وليس لدينا احتياطي مثل بقية الدول التي تعلن خفض السلاح ثم تعيد نشره ثانية; فما لدينا هو السلاح العامل والعامل فقط. سألت الرجل: كم كان عدد الأسلحة قبل الخفض؟. أجاب فيرفيردي بدون تردد: كان العدد أكثر بقليل من600 رأس نووي, أي أننا تخلصنا من نصف أسلحتنا النووية, بما في ذلك جميع الصواريخ التي كانت منشورة في هضبة الأردين; فقد أعلنها الرئيس ساركوزي صراحة أنه سيتم وقف انتاج المواد الانشطارية بغرض التسلح النووي, وهو ما كان يتم في هذا الموقع الذي تقف فيه, وهذا التفكيك لا عودة عنه, وهو ما نطالب به الاتحاد الأوروبي. توجد في بييرلات منشأة للتخصيب منخفض المستوي, وأخري متوسطة التخصيب, وثالثة عالية, وهي التي كانت تستخدم في المجال العسكري. الجولة في منشآت بييرلات صادمة; فكل شيء في هذه المنشآت يبدو كالديناصورات سواء من حيث الضخامة الهائلة, أو من حيث كونها في الطريق للانقراض. ولكي ندرك ضخامة مشروع إزالة منشآت انتاج المواد الانشطارية, يكفي أن ندرك أن هذا العدد من الكومبريسورات الهائلة حجما والتي يضمها أحد المفاعلات تبلغ كلفة تدميرها600 مليون يورو, وهو التدمير الذي سينتهي بنهاية العام الحالي, ولكي تدفن بعد ذلك في مقبرة خاصة في شمال غرب فرنسا, في حين أنه يوجد جانب من عملية التفكيك سيتم في عام2020 بعد انخفاض معدلات الاشعاع واستكمال مواقع الدفن, وهي العملية التي ستتكلف500 مليون يورو! هذا من حيث الكلفة, ولكن علي صعيد الصعوبة الفنية في عملية التفكيك, يكفي أن ندرك أن أحد منشآت ماركيول التخصيب المنخفض للبلوتونيوم يحتل مساحة55 ألف متر مربع, كما أن به45 ألف عمود صلب, وهو ستة أضعاف الأعمدة المبني بها برج إيفل! سألت الخبير النووي المصاحب: هل عملية البناء أصعب من الهدم؟ أجاب الرجل قائلا: الحقيقة أن التفكيك هو عملية بناء معكوسة, إلا أن التفكيك أصعب بكثير, حيث إنك تفكك منشآت بها مواد مشعة في منتهي الخطورة, بالإضافة إلي معدات ملوثة بالإشعاع. توقف الزمن عند الساعة11.30! في أثناء التجوال في ساحات وصالات المفاعل تري براميل سوداء لا حصر لها مجهزة لكي تقبر, بالإضافة إلي كومبريسورات هائلة الحجم, ناهيك عن كبسولات لا يقل ارتفاع الواحدة منها عن خمسة أمتار, وحقائب بلاستيكية ضخمة لا حصر لها, وبعد كل ذلك مفارم معدنية عملاقة تسحق كل هذه المعدات إلي قطع صغيرة, وكل ذلك في طريقه للقبور! سألت الرجل: هل كان يمكن تحويل هذه المنشآت للأغراض المدنية؟ أجاب الخبير بقوله:بالطبع, ولكن الموجود بالفعل يزيد علي الحاجة, ولكن يمكن استخدام المكان كمقر مؤقت للنفايات, وهو ما نفعله حاليا حتي يمكن تجهيز مقابر دائمة كافية. وأخيرا, دخلنا إلي الساحة الرئيسية لقلب المفاعل; وقد بدا مخيفا بمقاييس مهولة بالرغم من تفكيك بعض من أجزائه. صعدنا12 طابقا للوصول إلي قمة قلب المفاعل ذي الشكل التقليدي المستدير العملاق والذي يخترق صدره1100 قناة تم عزلها وسدها بالفعل. سألت الخبير: ما الشوط الذي قطعتموه في التفكيك؟ أجاب الرجل: نحن في المرحلة الثالثة من التفكيك, وهي عبارة عن مراقبة المفاعل الذي مازالت في قلبه معدات ومواد خطيرة مثل الجرافيت وغيره, والهدف هو مزيد من التأمين, وسيكتمل التفكيك عمليا في عام2020 مع إعداد أماكن آمنة لدفن نفايات المفاعل, وخلال تلك الفترة سنظل نراقب. وحيث إن انتزاع هذه الجولة من سياقها الأكبر يعد اجتزاء للصورة, فإن إداركي للدلالات المقصودة بهذه المشاهدات فيما يتعلق بالقضية النووية الإيرانية, يدفعني كي أستميح القاريء كي أتوقف برهة عن الطواف به في تلك الجولة داخل المفاعلات العسكرية الفرنسية علي أن نعاودها مرة أخري, ولكن بعد الحديث مع برونو تيرتييه كبير الباحثين في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية- والتي تعد الحكومة الفرنسية أهم عميل لها والتي أسست علي غرار مؤسسة أبحاث راند الأمريكية الشهيرة. بدأ الرجل حديثه فقال: لا أعتقد أن إيران توصلت إلي قرار بشأن رغبتها في تطوير سلاح نووي, ولكنها اقتربت من لحظة اتخاذ القرار أيا كانت طبيعته, وهو ما يجعلني متشائما, حيث إن غالبية الدول التي استثمرت بشكل ضخم, وخاصة في أنظمة الصواريخ ذاتية الدفع, كلها اتخذت في لحظة ما القرار بأن تخطو العتبة النووية بتطويرها سلاحا نوويا!. سألت الرجل: أنت بذلك تقطع بنوايا إيران باستخدام منطق القياس؟! جاءت إجابة الخبير الفرنسي كالتالي: منذ شهر يونيو2009 أعتقد أن المشروع النووي الإيراني يتحرك بالطيار الآلي, بمعني أنه يوجد تفويض استراتيجي لا يحتم العودة في كل صغيرة وكبيرة إلي القيادة. وحول العقوبات, قال تيرتييه إنها لن تكون ذات جدوي حقيقية في الوقت الراهن, ولكنها ستحمل رسالة للدول الأخري بألا تحذو حذو إيران. وحول التركيز في التهديدات والضغوطات علي إيران من دون كوريا الشمالية, قال الخبير الفرنسي إنه لا يمكن توجيه ضربة لها لأنها تخطت العتبة النووية بالفعل, مؤكدا أنه توجد احتمالات كبيرة في المستقبل أن تتحول إيران لقوة نووية بالفعل. وبالرغم من ذلك, أكد الخبير الفرنسي تيرتييه أن فرنسا تعتبر ضربة لإيران بمثابة كابوس يجب تجنبه, وأنه حتي إسرائيل يدور بها جدل حول مثل هذه الضربة. نعود مرة أخري إلي التجوال داخل المفاعلات النووية العسكرية الفرنسية لكي يستوقفني مشهد متكرر في كافة منشآته. فالغريب أنه طوال الجولة, كانت ساعات الحائط في صالات المفاعل وغرفه وفي داخل قلبه ذاته, متوقفة عند نفس التوقيت, وهو11.30! ولا أدري هل هذا يعني أنه تم وقفها عن العمل عند هذا التوقيت أم لا؟ وهل تم وقفها عندما اتخذ قرار إزالة المفاعلات؟ وإذا كان, فهل كان ذلك صباحا أو مساء ؟ ولكن المؤكد هو أن توقف الزمن في جميع ساعات الحائط عند نفس التوقيت, ليس صدفة! وحيث إن الصدف في هذا العالم مرفوضة, فإنه لم تكن صدفة أن تستكمل الرحلة بزيارة إلي لاهاي. والطريق إلي لاهاي لا يعبر بك الحدود الهولندية, حيث إن تلك المدينة هي فرنسية وتقع في إقليم نورماندي في شمال غرب البلاد, وتواجه الساحل البريطاني علي بحر المانش. كنت علي موعد; فلقاء مع أريفا تلك المؤسسة النووية التي تعمل في المجال السلمي, بالإضافة إلي قدرتها علي إعادة تدوير ومعالجة البلوتونيوم المتولد من أنشطة عسكرية لإعادة استخدامه في أغراض سلمية. وأريفا تلك هي التي وضعت فرنسا في المركز الثاني بعد الولاياتالمتحدة مباشرة في مجال معالجة الوقود النووي, وذلك قبل أن تأتي اليابان في المركز الثالث, في حين أن دولا مثل ألمانيا وإيطاليا لا تقوم بهذه العملية; فتلجأ لأريفا الفرنسية... فإلي هناك.