وفيما كان لهيب ثورة1919 يشتعل, انطفأ مد التأسلم, اختفت النزعات الطائفية, ورصاص الاحتلال لم يفرق بين مسلم ومسيحي, سالت دماؤهما معا لتروي زهور الوطنية الخالية من أي تعصب ديني, ومن أي تمييز علي أساس الدين. لكن الاحتلال ظل يواصل لعبة التفريق, وعندما كان سعد يستعد للسفر الي لندن لمفاوضة الاحتلال, صرح متحدث باسم الخارجية البريطانية بأن المفاوض البريطاني سوف يصمم علي وجود احتلالي يحمي مصالح الأجانب, واستكمالا للمؤامرة أطلق مجهولون النيران من مسكن في عابدين تقيم فيه أسرة أرمينية علي إحدي مظاهرات الثورة, وأسرع عملاء الاحتلال ليشعلوا نيران الفتنة, وليؤكدوا أن أرواح الأجانب في خطر, لكن حكمة قادة الثورة وقادة الطائفة الأرمينية أطفأت الفتنة, وأعلن الأرمن أنهم مع المصريين وضد الاحتلال, وعاد المتحدث باسم الخارجية البريطانية ليحاول إشعال فتنة أخري معلنا أن وجودا احتلاليا يبقي ضرورة لحماية مصالح الأقباط, وثار الأقباط قبل المسلمين, معلنين في كنائسهم وتجمعاتهم ورسائلهم للصحف, أنهم ضد الاحتلال ولا يطلبون منه حماية, فهم والمسلمون أصحاب لهذا الوطن ويريدون له الاستقلال, وفي خطوة حاسمة اقترح عبدالعزيز فهمي باشا أن يكتب شاعر مصر أحمد شوقي نصا لصلاة مصرية يشدو بها كل المصريين في وقت واحد معلنين وحدتهم ضد الاحتلال, ويدعون لسعد بالتوفيق, وفي اليوم الموعود دقت كل الكنائس أجراسها وارتفع آذان المآذن, واحتشد المصريون في المساجد والكنائس دون تفريق, مسلمين في الكنائس وأقباطا في المساجد, والجميع يرددون في وقت واحد وصوت واحد صلاة لمصر اللهم يا قاهر القياصر ومذل الجبابر ومن لا يحكم بين عباده سواه هذه كنانتك نزع إليك بنوها وهرع إليك ساكنوها هلالا وصليبا بعيدا وقريبا مستبقين كنائسك المكرمة التي رفعتها لقدسك أعتابا ميممين مساجدك المعظمة التي شرعتها لكرمك أبوابا نسألك فيها بعيسي روح الحق ومحمد نبي الصدق وموسي الهارب من الرق كما نسألك بالشهر الأبر والصائميه وليله الأغر والقائميه وبهذه الصلاة العامة من أقباط الوادي ومسلميه أن تعزنا بالعتق إلا من ولائك ولا تنزلنا بالرق لغير آلائك فأتنا اللهم حقوقنا كاملة واجعل وفدنا في دارهم هو وفدك وجندنا الأعزل الامن الحق جندك وقلدنا زماننا وولنا أحكامنا واجعل الحق إمامنا .. واذا كان هذا الموجز لصلاة مطولة قدمت في ساحة الوطن قادرا في حينه علي سد الطريق أمام العدو, وإيقاف كل محاولة للتفريق بين أبناء الوطن الواحد, فإن هذه الصلاة التي كانت تعبيرا حقا عن نوازع ودوافع حقيقية لإيمان حقيقي بوحدة المصريين قد حققت الهدف منها. فالعبرة ليست في الاصطفاف للصلاة في كنائس ومساجد لترديد عبارات لا تعبر عن إيمان حقيقي, فحتي الصلاة لرب العالمين إن خلت من خشوع حقيقي ويقين إيماني لا تكون صلاة حقة. العبرة إذن باليقين, ونحن الآن في أشد الحاجة لصلاة كهذه, ولكن يسبقها يقين فعلي بضرورتها وممارسات رسمية وشعبية تمحو كل آثار التمييز, وساعتها تكون الصلاة المصرية واجبة وذات تأثير حقيقي في ساحة الوطن الواحد.