إلي متي سنظل نسمع عن ونشاهد التطور الساحق في دول النمور الآسيوية ونفغر أفواهنا دهشة مما وصلوا إليه ومما يواصلون الطموح إلي ارتقائه. أما من رد فعل بعد السمع والمشاهدة والاندهاش وشراء البضائع الرخيصة من تلك الدول؟ أليس هناك مايمكن عمله ابعد من الكتابة عن تجاربهم أو تكرار الاستشهاد بها في مجال معارضة الحكومة بل وتداول حكاياتهم في منتدياتنا وكأنها أساطير أو معجزات لايمكن لغيرهم القيام بها؟. في ظل الإحباط الذي يلفنا في نواح كثيرة يبدو أن ثمة نقطة ضوء أود أن أشرك القراء في منافعها لان الضوء كالفرح يزداد إذا تقاسمناه. في البداية أشير إلي أن تقريرا مهما للمجلس القومي الامريكي للتنافسية كان قد رصد أن اكبر عشر دول مصدرة للتكنولوجيا المتقدمة في العالم عام1986 كانت علي الترتيب: أمريكا اليابانألمانيا بريطانيا فرنساهولندا ايطاليا سويسرا تايوان كوريا. لكن في2005 كان ترتيب الدول العشر الكبري في نفس المجال كما يلي: الصين امريكا اليابانألمانيا كوريا الجنوبية هونج كونج تايوان سنغافورة ماليزيا وفي ذيل القائمة بريطانيا العظمي!! يعني في اقل من عشرين عاما احتلت سبع دول آسيوية أماكن في القائمة بعد أن كانت ثلاث فقط وتوارت دول أوروبية عتيدة وهذا هو الحال حتي اليوم. فما الذي جري وكيف انقضت النمور فجأة علي الاقتصاد العالمي لتأخذ منه نصيبها وتحقق النمو الذي أذهل العالم؟ لم يكن في الأمر فهلوة ولا حظ ولامصادفات ولا دعوات للوالدين علي أهميتها في حياة الإنسان, بل كان هناك تخطيط علمي وعمل دءوب وتنفيذ متقن. فالعامل المشترك الذي جمع تجارب آسيا بما فيها تجربة اليابان ذات السبق هو وجود رؤية للمستقبل وخطة إستراتيجية تحدد الأهداف والخطوات العملية المطلوبة لتحقيقها, والمراحل المختلفة للوصول الي الهدف ثم السير بخطي ثابتة علي الطريق المرسوم مع دقة في التنفيذ ومتابعة دائمة وقياس للنتائج وتصحيح للمسار إن تطلب الأمر. والأهم من ذ لك كان هناك إثارة حماس المجتمع كله فاليابان التي خرجت مهزومة ومحطمة بعد الحرب العالمية الثانية لم يستكن أهلها بل طافوا العالم في أفواج كبيرة للتعلم وجلب المعرفة عن التكنولوجيا الحديثة من عند من دحروها... كل من قام برحلة دون في ذاكرته او صور في كاميرته التي لم تفارقه كل مارأي أو انبهر به وبعد جمع كل هذا الكم من المعلومات انكب الجميع علي صياغة إستراتيجية العودة إلي التقدم المبني أساسا علي تفوق في الإنتاج والتكنولوجيا ولأنه لم يكن لديهم في البداية إمكانية للمنافسة في التكنولوجيا المتقدمة التي كانت تتفوق فيها أوروبا وأمريكا فقد بدأوا بمراحل أولاها إعادة بناء البنية التحتية ثم نقله من تكنولوجيا بسيطة ومتاحة وتوطينها, واستخدموا بتوسع وذكاء الهندسة العكسية لمعرفة أسرار المهنة دون مخالفة قوانين الملكية الفكرية, كما استغلوا سوء جودة بعض المنتجات المعمرة عند خصومهم مثل الثلاجات والتليفزيونات وآلات التصوير فركزوا عليها وعلي تطويرها ليدخلوا للمنافسة بها في السوق العالمية وليحصلوا علي نصيب عادل منها, وكان لهم ماأرادوا. ثم كانت المرحلة الثانية هي مرحلة الإبداع والابتكار فادخلوا إلي الشركات والمصانع أفكارا وتكنولوجيا جديدة تسمح بالتفوق والانطلاق وعلي هذا المنوال سارت دول آسيا التي تعرف الآن بالنمور مع اختلافات تعود إلي شخصية كل دولة. كان ماحدث كالصدمة لأمريكا والغرب لقد سرقتهم السكينة وكما قيل ألهاهم الاستغراق في مديح الذات والرفاهية والتغطرس عن توقع عزيمة وإصرار بلاد آسيا علي التقدم وشراسة قدرتها علي المنافسة مع أن الامر لم يكن عشوائيا كما أوضحنا ولم يتم في غمضة. أين الضوء إذن؟ حضرت منذ أيام منتدي رعته وزارة الاتصالات ونظمته هيئة تكنولوجيا المعلومات التابعة لها وذلك لعمل عصف ذهني مع خبراء ورجال أعمال وأكاديميين مصريين وأجانب حول الاستراتيجية المصرية للإبداع التكنولوجي التي تعتزم الوزارة إطلاقها رسميا قريبا. إستراتيجية في موضعها لأنه سبقتها ثلاث مراحل الأولي كانت التأسيس( بنية تحتية وتشريعية ورقابية) والثانية إقامة أصول قوية( القرية الذكية والمناطق التكنولوجية وشراكات مع الأجانب) والثالثة التعهيد وخدمات المناطق الحرة وإظهار مصر كبلد متميز في المجال(براندنج ايجيبت) وأخيرا يجئ الإبداع التكنولوجي. عندما عرض الوزير ومساعدوه الإستراتيجية, كان واضحا أن هناك وضوحا في الرؤية وتكاملا في المراحل وتوزيعها للأدوار وحسابات دقيقة للتكلفة والعائد, وقد أعجبني قول الدكتور طارق كامل: إن من المهم تبسيط الخطة وشرحها للجمهور العام حتي لايقول ابداع ايه اللي حنصرف عليه مش لما نحل مشاكلنا الأول. وقد ذكر ان رئيس الوزراء طلب إقامة مركز للإبداع التكنولوجي وريادة الأعمال يقوم بالتنسيق والتحفيز, وانه سيتبني الإستراتيجية وسيعقد لقاء ربع سنوي مع المعنيين لمتابعتها. إنني أتمني أن تكون لكل جهة مثل تلك الخطة لان النهضة لايمكن ان تقوم علي قطاع واحد مهما كانت درجة تشبيكه مع الاقتصاد القومي, وقد لفت الخبيران الدوليان سوميترا ورون نظرنا إلي أهمية نشر ثقافة الإبداع بين المجتمع كله, وتوسيع الأهتمام بها في المدارس والجامعات لأنه يمكن ان يكون لدينا مبدعون في المجتمع, ولا يكون هناك مجتمع مبدع وطالبا بالحد من هجرة العقول إلي الخارج وإيجاد المناخ الصالح لضمان استمرارها وكان سوميترا هو الذي اقترح بصدق أن تكون رؤيتنا: مصر عاصمة الإبداع والتجديد في المنطقة, كما دعا الي أن نلهم الشباب ليبتكر وان نبحث عن مصادر القوة لدينا ولفت رون نظرنا الي أن كلمات: ذكاء وحماسة واليكترونيات ومصر كلها اولها حرفE مضيفا أن مصر الذكية ستدخل عالم الإبداع الاليكتروني بأقوي مما يتوقع الجميع مستحثا علي انجاز قفزة ليظهر الفرق في حياة المجتمع, ومن ثم يزداد إيمانه بالاستراتيجية الموضوعة. مصر ستفعلها بالتعليم والابداع وريادة الأعمال, فلسنا اقل من احد.