لأن الجامعات ومراكز البحث العلمي، هي قاطرة نهضة أي مجتمع، فإن تشخيص أحوالها بدقة هو الطريق الوحيد لعلاج أوجاعها، وبالتالي الانطلاق بها وبمصر إلي مستقبل أفضل. "روزاليوسف" تفتح نقاشًا جادًا ومتنوعًا حول أحوال الجامعات ومستقبل التعليم والبحث العلمي، من خلال نخبة من الأساتذة والعلماء والباحثين من جميع التيارات والانتماءات السياسية.. فمستقبل مصر للجميع. بعمقه المعهود وثقافته الموسوعية، اعتبر د. محمد الجوادي أستاذ القلب والأوعية الدموية، أن التعليم الجامعي مات بعدما هجر الأساتذة كلياتهم وجامعاتهم، مؤكدا أن مصر تعاني أمية تكنولوجية وهي السبب في البطالة والتخلف الصناعي. الجوادي طالب بتغيير قانون الجامعات الحالي، ودعا مجلس الشعب إلي اتخاذ قرار جريء بعيدا عن الحكومة بإنشاء 01 جامعات تكنولوجية في المدن الجديدة خلال 01 سنوات. وقال في حوار مع "روزاليوسف" إن غياب البحث العلمي الجاد من الجامعات، والهرم الوظيفي "المقلوب"، أجهض دور الجامعة في خدمة المجتمع. واعتبر محمد الجوادي أن الجامعات العربية سبقت نظيراتها المصرية منذ سنوات.. وإلي الحوار: ما هي الجامعة التي نحتاجها في القرن الحادي والعشرين؟ نحن في حاجة إلي جامعات تكنولوجية تستطيع أنه تقضي علي ما يسمي بالأمية التكنولوجية التي هي السبب الأول للبطالة والتخلف التكنولوجي الذي نعيشه اليوم - خاصة أن لنا تجارب محدودة ناجحة في هذا المجال مثل المعهد التكنولوجي بالعاشر من رمضان ومعهد كيما أسوان وهنا يبرز سؤال هل ننتظر التمويل بينما المليارات في بنوكنا تحتاج إلي مجالات لاستثمارها، متي نستطيع أن نأخذ القرار في مجلس الشعب قبل الحكومة بإنشاء عشر جامعات تكنولوجية علي مدي السنوات العشر المقبلة في عشر من المدن الجديدة ولابد أن تتبني لجنة التعليم بمجلس الشعب قانونا يلزم الدولة بهذا الهدف النبيل الذي يعد عمادة مستقبلنا في الفترة المقبلة. لكن هناك توجها عاما داخل الدولة حاليا لإنشاء العديد من هذه الجامعات بالفعل مثل جامعة النيل والمصرية الالكترونية؟ - إن كان هذا يحدث بالفعل إلا أن العقلية المصرية المعاصرة ليست لديها رؤية مستقبلية فيما تنشئه من كليات وجامعات جديدة لأننا مشغولون بالتوسع الأفقي وبالنمو التكراري إلي أبعد حد فنحن نعتقد مثلا أن إنشاء كليات طب جديدة هو السبيل لتطوير التعليم في القطاع الطبي وقس علي ذلك في كل القطاعات، نحن مازلنا غير قادرين علي استيعاب حركة العمل والثقافة والمعرفة بالعالم المحيط بنا. إذا كيف تري مستقبل التعليم الجامعي في ظل ما تقوله؟ - أولا.. التعليم الجامعي "مات" بعدما هجر الأساتذة كلياتهم وأبحاثهم وانشغلوا بأعمالهم الخاصة، لذا فأنا أدعوا إلي ما يسمي "بالرهبنة" فالجيل الذي بني الجامعة الأهلية عام 1908 لم "يتزوج" وتفرغ للحياة الجامعية للنهوض بها. لكن هذا أمر ليس بالهين؟ - لماذا أنا شخصيا تزوجت مؤخرا جدا لانشغالي بالجامعة، وقس علي ذلك من بنوا الجامعة أمثال الدكاترة حامد جوهر، جمال حمدان، محمد عمار، أحمد كامل حسين. ما هو المأزق الحقيقي للجامعة المصرية؟ - تواجه الجامعات المصرية مثل سائر المؤسسات عدة تحديات تبحث عن المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعجز النظامين التشريعي والإداري عن مواجهة تلك التحديات، وعلي رأس هذه التحديات "انقلاب الهرم الوظيفي" داخل الكليات بين أعضاء هيئات التدريس وعرقلته للإصلاح المنشود للجامعات حتي تعود إلي دورها الأساسي كصرح علمي يقدم البحث العلمي الهادف. ما هي الآثار التي نتجت عن ذلك؟ - غياب تنظيم الهيكل البشري جعل عطاء الجامعة بعيدا عن الإطار المؤسسي والمنهجي ليصبح شذرات متناثرة ومتنافرة من بحث علمي مفكك غير محكم، وأن اتخذ شكل العلم في ظاهره العام ليجد المجتمع وقد تعرضت مشكلاته لبحوث جامعية بعيدة عن نتائج قابلة للتطبيق لمواجهة - ولا أقول حلا - هذه المشكلات وهذا هو جوهر ما يحدث في مصر الآن، ومن المؤسف أن الهرم المقلوب يزداد انقلابا كل عام. هل هذه مشكلة أبدية؟ - نعم فهي ليست مؤقتة لا يمكن التغلب عليها بحلول ولا هي طارئة حتي يمكننا التغاضي عنها وتجاوزها، ولكنها للأسف الشديد متنامية ومرتبطة تماما بجوهر نظام الجامعات الذي يحكمه الآن قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 72 . وما الحل إذا؟ - أري من وجهة نظري أنه لابد من تغيير القانون لنصبح مثل دول العالم المتقدمة علي أن تكون الترقيات بالإعلان، وأن نعمل خلال السنوات المقبلة علي تعديل الهرم ووضعه علي قاعدته بدلا من قمته، بحيث يصبح لدينا عدد غير قليل من المعيدين والمدرسين المساعدين، كما أري أن الحل الأقرب للواقع هو عودة أستاذ الكرسي وأستاذ التخصص. بمعني؟ - فمثلا يكون لدينا أستاذ باحث وآخر ممتحن وثالث واضع للمناهج، علي أن يعمل كل واحد منهم فيما يخصه، مع السماح بالمرونة الكافية بأن يصبح الأستاذ الممتحن أستاذا باحثا أو العكس. لكن هل عودة أستاذ "الكرسي" وأستاذ "التخصص" ستضبط الهرم المقلوب؟ - ضبط الهرم هو الهدف الثاني، أما الهدف الأول والأساسي لعودة هاتين الدرجتين هو إعادة القيم العلمية التي افتقدناها منذ صارت الأمور علي منوال "طابور الجمعية" وحين أصبحت الترقيات نوعا من النشاط الأقرب إلي أنشطة وزارة "التضامن الاجتماعي"، فكأن الجامعة أصبحت تكافلا اجتماعيا للطالب الذي بمجرد تعيينه معيدا لابد أن تكفله حتي يصل إلي الأستاذية ومن ثم يصبح أستاذا "غير متفرغ". هل هذا يعني أن الجامعات المصرية فقدت وظيفتها؟ - نعم.. ويتمثل هذا في خمس نقاط مهمة أولا: فشلت في الحفاظ علي ريادتها بالمنطقة العربية، حيث كانت الجامعة المصرية بمثابة الأم والنموذج التي تحتذيه الجامعات الجديدة في المنطقة، والمؤسف أن هذا الوضع ليس جديدا بل هو مستمر منذ حرب أكتوبر حيث ظهرت الحياة الجامعية في كثير من الدول العربية خاصة دول الخليج في حين الجامعات المصرية لم تستطع أن تطور نفسها بذات الدرجة. ثانيا: فشلت الجامعات في مواكبة الحياة الاجتماعية ومشكلاتها، ويتمثل هذا في تقصيرها الشديد في دراسة الإرهاب دراسة علمية جامعية متكاملة، تتضمن التأصيل الدقيق للمشكلة والاحصاء العلمي لها وتوصيات محددة لحلها بما يتناسب مع طبيعة المجتمع الذي توجد فيه، لذا أطالب بالمحاولة الجادة في خروج التدين السياسي من الجامعات. ثالثا: الفشل في مواكبة التحولات للمجتمع والتقصير الشديد في دراسة السياسة التكنولوجية لمصر مع التحولات المتتالية في الداخل والخارج. رابعا: ضعف الإسهام في تقديم حلول لمشكلات المجتمع المزمنة، ومشكلة الإسكان نموذج صارخ لهذا، حيث انصرفت الجامعات عن الاسهام في حل هذه المشكلة ولو بتقديم نموذج المسكن الأنسب والأرخص علي نحو ما فعل حسن فتحي في قريته بالأقصر منذ سنوات ليست بعيدة. وانصرفت كل الجامعات إلي إقامة مساكن لهيئات التدريس معتدية جهارًا ونهارًا علي الرقعات الزراعية. خامسًا: الفشل في توظيف العلم لخدمة الصناعة والتنمية حيث لم تجاهد الجامعات حتي بأدني درجات الجهاد كالكتابة علي صفحات الجرائد مثلا من أجل توظيف العلم في خدمة الصناعات ويكفي ما ندفعه من عملات صعبة في شراء "حق المعرفة" في الأجهزة المنزلية والسيارات حتي هذه اللحظة وما سنظل ندفعه. مما لا تدفعه بلاد كالهند مثلا. ولا أقول النمور الآسيوية. لكننا بالفعل نمتلك ذخيرة من العلماء، إذا لماذا لا نستفيد منهم في ربط العلم بالصناعة والتنمية؟ هذا حقيقي ولكن لو تركت له حرية التصرف بعيدًا عن الميزانيات المحدودة وبيروقراطية صرف الميزانيات والإمضاءات. لأصبحت النتيجة توفير مليون جنيه علي الأقل كل عام علي الاقتصاد القومي.. وتخيل عدد هذه الملايين بعدد علمائنا وعدد تخصصاتهم واضرب ذلك مثالاً لهذه العراقيل الأستاذ الذي قام بتحضير عقار مضاد للسرطان وماعاناه لكي يسوق منتجه. إلا أن هذه المعاناة والجهاد الذي باء بالفشل في أحيان كثيرة يجعل الباقين يفضلون عدم الدخول إلي حلقة الجهاد من البداية. هل مثل هذه العراقيل تفقدنا جهودنا في بحث علمي راق؟ أنا مؤمن بأن "حجمًا حرجًا" كما يقول علماء الطبيعة من الجهاد سوف يكون كفيلاً بتغيير الصورة عن قريب. لماذا هناك إجماع علي تدني مستوي التعليم في الجامعات؟ بالفعل هناك اجماع علي تدني مستوي التعليم في الجامعات، وكان يظن أن كثرة أعداد الطلبة بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس هي السبب، فإذا المرض يستمر حتي بعد أن وصلت النسبة بين الطرفين إلي مستوي أفضل من المعدلات العالمية، ولكن يبدو أن التفاحة المريضة لم تصب التفاح بالعطب فحسب، لكنها تركت الجرثومة في الصندوق نفسه كذلك. لكن هناك بدائل للتعليم الجامعي؟ موجودة بالفعل وللأسف وصل بها الحال عند الناس أنها أصبحت بالفعل أفضل في المستوي من التعليم الجامعي نفسه، مثل الجامعة الأمريكية والأكاديمية العربية للنقل البحري وأكاديمية ومعاهد اللغات الأجنبية والمعاهد التكنولوجية، وربما يصل هذا القدر نفسه من القبول الجماهيري فيما يتعلق بالتعليم المفتوح في المستقبل إذا تحرر من سيطرة الجامعة. ما الأسباب الحقيقية وراء هذا التدهور؟ تتعدد الأسباب وراء هذا التدهور. إلا أنه السبب الجوهري هو غياب الروح الجماعية الكفيلة بالسيطرة علي مستوي من التعليم يكون لائقًا باسم الجامعة ولا يمكن العمل علي إصلاح هذا العيب الخطير بمجموعة من الإجراءات "المتعجلة"، ولكن الأمر يتطلب فهما دقيقًا لطبيعة تكوين الطالب الجامعي قبل اتخاذ أي إجراءات بل وقبل أن يبدأ أساتذة الجامعات في تطبيق هذه الإجراءات. ألا تري أن الكثافة الطلابية داخل المدرج الواحد ونظم التعليم التي مازالت تعتمد علي "الطباشير والسبورة" وراء تدني مستوي التعليم الجامعي الحكومي؟ هذه أسباب أخري تضاف إلي الأسباب السابقة. ولكن الكثافة الطلابية يمكن التغلب عليها بتقسيم الكليات إلي مجموعة من الكليات مثل كلية طب قصر العيني، كلية طب الساحل، كلية طب أحمد ماهر. كيف تري دور المستشفيات الجامعية في خدمة المجتمع؟ كانت تلك المستشفيات في كثير من الأحيان مثالاً بارزًا علي الدور الذي تقوم به الجامعات في خدمة المجتمع. إلا أنها حاليا أصبحت مثالاً بارزًا أيضًا علي فشل الجامعات في القيام بخدمة المجتمع. فمع زيادة عدد البحوث المطلوب إجراؤها علي مرضي هذه المستشفيات بسبب زيادة عدد الباحثين من أعضاء هيئة التدريس وارتباط مستقبلهم بإجراء البحوث أصبح المريض المفضل والمناسب هو ذلك المريض الذي يستطيع لعب دور مريض التجارب المعملية وبالتالي انحسر هدف العلاج إلي درجة متدنية لدي الأساتذة والأطباء. هل وصل بها التدهور إلي هذا الحد؟ ليس هذا فقط، فالمستشفيات الجامعية كانت مكانًا لتقديم المساعدة للفقراء وغير القادرين وخدمة ممتازة لهم، أصبحت الآن مكانًا لتقديم الخدمة للعاملين فيها بتهيئة مرضي البحوث والامتحانات، كما انتشرت رغبة محمومة في زيادة أسرة العلاج بأجر والوحدات الخاصة، وليت هذا الدخل يعود بالفائدة علي المرضي، لكنه غالبًا ويا للأسف يعود ليتخم جيوب القادرين من الأطباء من ذوي السلطة في توزيع هذه الدخول، والغريب مع كل هذا تجد من لا يشعر بأي حياء وهو ينادي بأن العلاج بأجر كفيل بالإنفاق علي العلاج المجاني رغم أن العلاج بأجر لم يستطع ولو مرة واحدة أن يتكفل بالإنفاق علي نفسه. C.V الطالب المثالي لجامعة القاهرة 1976 مقرر لجنة مكافحة الضوضاء في الاتحاد الدولي للشباب والبيئة 1980 زميل كليفيلاند كلينيك لأمراض القلب. أستاذ القلب والأوعيةالدموية بكلية طب الزقازيق. عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة. رئيس تحرير المجلة الطبية المصرية الجديدة. جائزة الدولة التقديرية في الآداب 2003 جائزة الدولة التشجيعية في أدب التراجم 1982 عضو المجلس الأعلي للثقافة لجنة الثقافة العلمية. عضو المجلس الأعلي للشئون الإسلامية لجنة الموسوعات. عضو أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا لجنة تاريخ وفلسفة العلوم. عضو الهيئة الاستشارية لمكتبة الإسكندرية. عضو مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب والمشرف علي قطاع النشر حتي 2009 رئيس مجلس أمناء مدرسة المتفوقين الثانوية النموذجية. عضو المجمع المصري للثقافة العلمية. أمين اللجنة العليا لتطوير المناهج في وزارة التربية والتعليم وقبلها لجنة تطوير مناهج اللغة العربية وقبلها لجنة المعايير القومية الموحدة ولجنة تطوير التعليم الثانوي. عضو في هيئة تنسيق التعريب بالمنظمة العربية للثقافة والعلوم. عضو في معهد الدراسات المتقدمة لحلف الأطلنطي. مستشار الأكاديمية الطبية العسكرية والهيئة العامة للاستعلامات. غداً : د.حسام كامل: حرام اختزال تاريخ القيادات الجامعية في الواسطة والصداقة والأمن..وحاسبوني علي استراتيجيتي عاماً بعد عام