.. لا توجد فواصل كبيرة( أو فروق عريضة) بين السياسة والاعلام, فالثابت أن التداخل بينهما مؤكد إلي حد أن البعض يعتبر أي سياسي هو بالضرورة إعلامي, وكذلك مهنة الاعلام طريقها مفتوح دون حواجز علي السياسة والسياسيين. ولا شك أن الذاكرة الاعلامية( الدولية) تسعفنا بنماذج تؤكد هذه الصلة القوية بين السياسة والاعلام, فالرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران قد عمل في فترة من حياته رئيسا لتحرير مجلة نسائية شهيرة في بلاده لاتزال تصدر إلي الآن وهي مجلة مدام لوفيجارو! والمهتمون بالصلات والوشائج التي تربط رجال السياسية والاعلام يعرفون جيدا أن بريماكوف أحدا أشهر رؤساء الوزارة في روسيا كان يعمل مديرا لوكالة الأنباء الروسية في القاهرة, ولذلك كان يجيد اللغة العربية إجادة تامة. أيا كان الأمر فتقاطع السياسة بالاعلام أو العكس ليس ادعاء أو افتعالا, كذلك عندما يفرد الاعلام انفرادا مسموعا ومرئيا, في اتجاه عكس ذلك الذي تسير فيه السياسة, فان ذلك يعتبر شكلا من أشكال الخلل, ولا يستقيم هذا الحال مع اولئك الذين يرون في هذا التناقض صورة من صور حرية التعبير, لأن الاعلام في أي منظومة سياسية في العالم هو في التحليل النهائي أداة هذه المنظومة والمعبر عنها.. لذلك عندما لا نجد مفردات أي عملية سياسية علي صفحة جريدة أو شاشة أو عبر الأثير, فهذا أكبر دليل علي وجود خلل ما في العملية الاعلامية برمتها.. والانصاف وحده يقضي بالقول إن الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعيشه مصر في العقدين الأخيرين علي وجه الدقة قد خلق مناخات سياسية واعلامية غير مسبوقة, وصور للبعض أوهاما من نوع ما, جعلته يتحدث عم يراه( أو ينقله عن الآخرين!) ناسيا ربما عن عمد أن واجبه الأول هو أن ينقل الينا وجهة نظر البلد الذي يتحدث باسمه أو يصدر فيه! ولكي تتضح فكرتي بوسعي أن اسوق أكثر من مثال.. الأول هو النجاح العظيم الذي حققته الدبلوماسية المصرية في مؤتمر مراجعة معاهدة خطر الانتشار النووي الذي شهدته نيويورك قبل أسابيع, وتمكنت فيه مصر لأول مرة أن تجعل المجتمع الدولي يدعو إسرائيل إلي الانضمام إلي هذه المعاهدة, وأن تخضع المفاعلات النووية الإسرائيلية للتفتيش من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. والحق إننا لو حاولنا أن نقرأ شيئا عن هذا الانتصار الدبلوماسي المصري الساحق علي صفحات الجرائد المصرية( قومية ومستقلة وحزبية) لما وجدنا إلا النذر اليسير, وكأن مصر لم تفعل شيئا وكأن دبلوماسيتها كانت تعبث طوال أيام المؤتمر, أو كأن الخارجية المصرية لم تفعل ما يستحق الذكر وفي ظني أن هذا التجاهل الإعلامي لفوز ساحق ماحق من هذا النوع هو جريمة يرتكبها الاعلام في حق الدبلوماسية المصرية التي يعرف بسبقها في هذا المجال القاصي والداني.. إلا الأقلام المصرية التي لم يلتفت منها إلا القلة القليلة. مثال آخر يبرز هذا التناقض الذي يعيشه الاعلام المصري فيجعله يتجاهل عن عمد الخط السياسي العام للدولة فكلنا يعرف علي سبيل المثال أن مصر الرسمية قد أكدت مرارا وتكرارا ولا تزال تؤكد رفضها لمعالجة ملف إيران النووي بالحرب أو بالقوة العسكرية, ليس فقط لأن ذلك سوف يضر بالمنطقة ومصالح شعوبها ضررا بالغا, ولكن أيضا لأن ايران دولة جارة, وإسلامية, فضلا عن ان إسرائيل تملك سلاحا نوويا فعليا وليس محتملا كحال إيران لكن المجتمع الدولي يكيل بمكيالين, فيري في إيران شيطانا مريدا, بينما يري إسرائيل بردا وسلاما. اقول إن هذا الموقف قد اعلنته مصر في أكثر من مناسبة سواء علي لسان رأس النظام أو علي لسان وزير الخارجية, وكان الطبيعي أن يشرح الاعلام المصري وجهة النظر المصرية, مرجحا خيار الحوار والدبلوماسية, علي خيار الحرب والمواجهة العسكرية, لكن ما حدث للأسف الشديد هو أن الاعلام تناسي حتي لا نقول تجاهل الموقف المصري, وشرع يروج لوجهة النظر الأمريكية والأوروبية, فيتحدث عن خطة واشنطن في تهيئة الأرض في منطقة الشرق الأوسط للحرب ضد إيران.. ويسرف في وصف الخسائر والدمار الذي سيلحق بايران.. وكأنه يريد أن يقول إن ثمن معارضة أمريكا أو الاختلاف معها سيكون باهظ الثمن! ليلقي بذلك الخوف والفزع في قلوب كل الرافضين للجبروت الأمريكي والمتمسكين بالروح الوطنية العالية في بلدانهم! .. الغريب والعجيب أن ما ينقله اعلامنا بمختلف أطيافه يدخل ضمن الدعاية المغرضة لصالح امريكا, لأن بعض الصحف المصرية التي تتحدث ليل نهار عن ايران بان من الصعب التفريق بينها وبين الصحف الأمريكية.. وإذا علمنا أن ما يذكره الاعلام الأمريكي في هذا الخصوص يتفق مع السياسة الأمريكية التي تريد قهر إيران وتتصيد لها الأخطاء, ولا تتورع عن التحرش بها سياسيا واقتصاديا.. فان السؤال التالي يطرح نفسه بقوة: إذا كانت السياسة المصرية لاتنسج علي منوال الحرب والعسكرة, ونري أن الحوار الدبلوماسي هو الأداة المثلي لحل هذه الأزمة, فلماذا يتجاهل اعلامنا ذلك ويسير في نفس الطريق الذي يسير فيه الاعلام الأمريكي والأوروبي. بكلمة أخري: لمصلحة من هذا التناقض؟! المثال الثالث الذي عاني منه الكثيرون هو اللهجة التي تحدث بها الاعلام المصري أثناء معالجته لأزمة مياه النيل والتي لم تخل من وعد ووعيد وتهديد.. إلي حد أن بعض الاقلام قد دعت إلي تجريد السلاح والتعبئة الشاملة تمهيدا لاعلان الحرب علي دول المنابع, والغريب أن الموقف الرسمي المصري لم يكن كذلك, وانما كان ولا يزال ينادي بالحوار والطرق الدبلوماسية. يبقي أن نذكر أن حرية التعبير, واصرار رأس النظام في مصر علي ألا يكسر كلمة, لا يمكن أن يكون مبررا لشطحات اعلامية تضر بالسياسة المصرية والعربية, وتضيع معها الحقوق التي ناضلت من أجلها أجيال ودفعت أرواحها ثمنا لها. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي