كتب : محمود الكردوسي حدثت أشياء أكثر غموضا وإثارة من موتها خلال الأعوام الثلاثة التي انقضت منذ هذا التاريخ. مات عشرات الآلاف في فلسطين والعراق, وزلزلت عروش, وتغير وجه الدنيا.. لكنك لا تستطيع أن تنسي سعاد حسني- حياة وموتا- لأنها' سينة' مبهجة في تتابع مشاهد مقرف وكئيب ولا نهائي, لذا فإن الكتابة عن سعاد ستظل جزءا من متعة معايشتها. *** كانت سعاد ابنة خالصة للطبقة المتوسطة: أسرة مزدحمة بالأبناء ومزدحمة أيضا بالميول والتجليات الفنية( خط, رسم, نحت, تلحين, غناء, تمثيل), وكان جمالها عاديا, أي قريبا ومألوفا لجمهور هذه الطبقة. جمال' واقعي' يفضي إلي جمال' كامن' جعلها حلما لكل شاب ومثلا أعلي لكل فتاة. وإذا كان ظهور سعاد في أواخر الخمسينيات قد واكب حراكا سياسيا واجتماعيا تصدرته الطبقة المتوسطة وأفادت منه أكثر من غيرها.. فهي أعادت- عبر أدوارها الجادة, والخفيفة في آن واحد- إنتاج أهم صفات فتاة هذه الطبقة: التحفظ إلي حد الصرامة والرغبة الطاغية في الانفلات, أي التمرد علي كهنوت الذكر. *** لعبت سعاد دورا فاعلا في كسر أو تخفيف حدة الطابع الميلودرامي لصورة البنت المصرية في السينما, هذا الطابع الذي عززه انكسار وتخاذل معظم بطلات فاتن حمامة بقدر ما عمق نجوميتها لدي قطاعات هائلة من الجمهور المصري والعربي. ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتي منتصف الثمانينيات عبرت اختيارات سعاد حسني عن خوفها من ضياع المكاسب التي حققتها المرأة في مجتمع منقسم بين تمسكه بشرقيته وانبهاره بالقيم والأيديولوجيات المستوردة, لذا تحول نقاشها المرح إلي حزن دائم بلغ ذروته في مقتل السندريلا' بهية' في( المتوحشة-1979) وانتحار' نوال' في( موعد علي العشاء-1981). وفي آخر أفلامها( الراعي والنساء-1991) بدت' وفاء' واحدة من ثلاث نساء يتصارعن علي رجل غريب, وتصدرت الكادر نجمة بمواصفات ووظائف جديدة هي' يسرا', والمسافة شاسعة كما يبدو بين' وفاء' و'نعيمة' التي عاندت الجميع وتشبثت بحبها للمغنواتي حتي كسبت معركتها( حسن ونعيمة-1959). *** خلال الثمانينيات قدمت سعاد عددا من الأفلام الفاشلة تجاريا رغم أهميتها الفنية, وقيل إن هذا الفشل أسلمها إلي حالة من الإحباط ثم الاكتئاب ثم العزلة, وأضيف المرض بعد ذلك ليتحول الأمر إلي قطيعة مع كل شئ. ويعتقد الكثيرون إن موتها كان انتحارا لهذا السبب, لكنني في الحقيقة لا أراه انتحارا ولا اغتيالا ولا حتي موتا طبيعيا, بل جزءا من جوهرها البطولي. *** سندريللا'.. أم' سيدة شاشة': أجد نفسي مبدئيا أكثر انفعالا وقربا من اللقب الأول.. هذه واحدة. أما الثانية فتتعلق بمكونات النجمة لدي كل منهما. فاتن حمامة( وهذه قناعة شخصية لا تقلل من قدرها) أقرب إلي نمط المبدع الموظف. وهي قياسا إلي سعاد.. تشبه نجيب محفوظ قياسا إلي يوسف إدريس. وليس في طبيعة فاتن أو في تركيبتها كفنانة.. ذلك الوهج والتوتر والشطط والميل الفطري إلي عدم الاستقرار. ليس في حياتها دراما, ولا أظن أنها ستموت( بعد عمر طويل) بعيدا عن فراشها ووسطها وتاريخها. فنانة منضبطة, موسوسة, مستقيمة أكثر من اللازم, صارمة ولديها مزاج ديكتاتوري سواء في موقع التصوير أو حتي في تسويق نفسها كنجمة. وفي غالبية أعمالها عبرت فاتن عن أكثر ملامح فتاة الطبقة المتوسطة بؤسا وميلودرامية. مقهورة, مغلوبة علي أمرها, تبكي كثيرا وليس بوسعها سوي أن تبكي, وفي المحصلة الأخيرة هي لم تمثل سوي دور واحد لا استثناء منه إلا لتأكيد القاعدة. أما سعاد فقد ماتت مغدورة, معذبة, مهانة, لا أحد يعرف أو سيعرف كيف ماتت, وسيتحول موتها- مثل مارلين مونرو وديانا سبنسر وغيرهما- إلي لغز.. إلي جزء من الطابع الأسطوري لحياتها. وحسب التقاليد المهنية السائدة هذه الأيام فإن موتها سيتحول إلي' لقمة عيش' لكثير من الكتاب والصحفيين. لم يعد أحد يهتم بمن قتل سعاد حسني, وكيف ماتت, ولماذا تموت قبل أوانها!. غير أن كل المقدمات في حياتها الواقعية والسينمائية لم تكن لتوحي بأنها ستموت علي فراشها, بين يدي محبيها, وبعد عمر طويل. لقد قلت وما زلت أقول إن سعاد' بنت موت'.. وإذا كانت قد تركت في كل بطلة قبسا من روحها.. فهي حاضرة إذن في كل بطلاتها.