بينما يرفع المرشحون في الانتخابات الرئاسية في أي دولة شعارات التغيير كعامل أساسي لجذب الناخبين فإن الوضع في البرازيل مختلف. فإذا أردت النجاح لا بد أن ترفع شعار نعم للاستمرارية. وتتعهد بأنك ستتبع نفس السياسات والبرامج التي يقوم بها سلفك. فالرئيس البرازيلي الحالي لولا دي سيلفا حقق خلال فترتيه الرئاستين منذ عام2002 نجاحا لم يكن يتوقعه أكثر المتفائلين. والآن وهو يترك منصبه مضطرا لعدم استطاعته ترشيح نفسه لفترة ثالثة بحسب الدستور يؤكد المرشحون لخلافته أن برنامجهم هو استمرار للسياسات الناجحة الحالية. ويتنافس علي مقعد الرئاسة في الانتخابات المقرر عقدها في شهر أكتوبر المقبل كل من كبيرة موظفي الرئاسة ووزير الطاقة سابقا ديلما روسيف وهي المفضلة عند الرئيس الحالي والتي صدق حزب العمال الحاكم علي ترشيحها هذا العام وخوزيه سيرا حاكم ساو باولو أكبر مدينة في البرازيل ومرشح الحزب الديمقراطي الاجتماعي والمتقدم في استطلاعات الرأي. ورغم أن الحزبين ينتميان إلي اليسار الذي يسيطر علي الساحة السياسية منذ نهاية الحكم العسكري في أواخر الثمانينيات فإن المنافسة سوف تكون مرتفعة وسيسعي كل منهما للقيام بتحالفات مع الأحزاب الصغيرة الأخري. وقد أظهرت استطلاعات الرأي الصادرة في الأسبوع الماضي تعادل كل من ديلما روسيف وخوزيه سيرا بنسبة37% من الأصوات لكل منهما بعد أن ظل الأخير متقدما بفارق نحو ثماني نقاط خلال الشهور الماضية حيث نجحت مرشحة الرئيس البرازيلي في التقدم مع إقتراب الإنتخابات. وقد دخلت في صراع الرئاسة أيضا وزيرة البيئة السابقة مارينا سيلفا المرأة السمراء والتي تحظي بتأييد نحو9% من الناخبين أغلبهم من المدينة الجنوبية الكبيرة ريو دي جانيرو. ويسعي المرشحون لإظهار تقاربهم من فكر وسياسات الرئيس الحالي. فالرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا(63 سنة) والذي تم اختياره هذا العام في منتدي دافوس كأفضل رجل دولة في العالم نجح في تحقيق المعادلة الصعبة: إتباع سياسات اقتصادية منضبطة ومحفزة للنمو الاقتصادي وفي نفس الوقت تطبيق سياسات اجتماعية ساهمت في تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء ومنحت الفقراء حق المشاركة في جني ثمار النمو الاقتصادي. ولذلك لم يكن غريبا أن يكسب تأييد نحو80% من الشعب في استطلاعات الرأي وهي نسبة لم يسبقه فيها رئيس منتخب خلال حكمه من قبل. فهذا الرجل الذي خرج من بين العشوائيات في البرازيل وعمل ماسحا للأحذية ثم زعيما نقابيا للعمال لم ينس شعاراته ووعوده للفئات التي خرج منها. وبني فلسفته الاقتصادية علي أن النهوض بالفقراء ومتوسطي الدخل سوف يساعد علي زيادة الطلب اللازم لتمويل النمو الاقتصادي. وبعد أن كانت البرازيل مثالا للدولة ذات الهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء وفي عدم عدالة توزيع الدخول أصبحت نموذجا عالميا في كيفية تضييق هذه الفجوة وهي بهذا تتفوق علي الصين والهند في نجاحها ليس فقط في تقليل معدلات الفقر ولكن في تحقيق مزيد من العدالة في التوزيع. وأصبحت الطبقة المتوسطة تمثل53% من سكان البرازيل البالغ عددهم190 مليون نسمة بدلا من42% عند تولي الرئيس الحكم في عام2002. أما بالنسبة للأغنياء وأصحاب الأعمال فمثلما كانت تخوفاتهم كبيرة عند إعتلاء دي سيلفا الحكم فهم الآن سعداء بالسياسات المتبعة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وعلي المستوي الدولي فإلي جانب تنظيم كأس العالم والدورة الأوليمبية في عامي2014 و2016 فقد أثبتت البرازيل أن لديها ما تقدمه للعالم بأكثر من كرة القدم والرقص والمهرجانات. فالبرازيل خامس أكبر دولة من حيث السكان وثامن أكبر اقتصاد في العالم أصبح لها ثقلها الدولي وأصبحت تطالب بشدة أن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد نجحت مؤخرا في إبراز قدرتها علي التأثير في الساحة الدولية عندما قامت مع تركيا بالتوصل إلي اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي وهو ما لم تستطع القوي التقليدية الغربية في الوصول إليه خلال السنوات الماضية. والبرازيل هي التي سعت أيضا في عام1999 لإنشاء مجموعة العشرين والتي تهيمن حاليا علي القرارات والسياسات الدولية خاصة في المجال الاقتصادي كما أنها أحد دول' البريك' الأربع( مع الصين والهند وروسيا) التي لم يعد ممكنا رسم توجهات دولية بدونها حيث تمثل هذه الدول مع دول صاعدة أخري مستقبل النمو الإقتصادي العالمي في مرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية. في الوقت نفسه زاد نفوذ البرازيل في أمريكا اللاتينية باعتبارها النموذج الأكثر نجاحا بين جيرانها. هذا بالإضافة إلي أن البرازيل غنية بالموارد الطبيعية حيث تعتبر من أهم مصدري الغذاء علي مستوي العالم وقد دخلت مؤخرا كلاعب مهم في سوق منتجي البترول. وسوف يكون علي الرئيس القادم استكمال هذه النجاحات والعمل علي استمرار تخفيض معدلات الفقر وتحسين مستوي التعليم المتدني مقارنة بالمستويات الدولية وتقليل البيروقراطية ومواجهة الفساد هذا المرض العضال الذي يمثل أكبر تهديد لقدرة البرازيل علي التقدم. ولطمآنة الداخل والخارج لا تنفك الحكومة البرازيلية من التأكيد علي أن السياسات الحالية غير قابلة للرجوع عنها, وأن مهمة الرئيس القادم هو استكمال الإصلاحات وتعميقها. ولكن إذا لم ينجح الرئيس المقبل في تحقيق ذلك فربما يضطر لولا دي سيلفا إلي العودة مرة أخري للترشح بعد4 سنوات لإستكمال مسيرته ومهمته غير المنتهية.