أتسلق شجرة الذاكرة وحكايات السنين ماثلة أمامي علي شاشة العمر, وتتدفق الصور والذكريات تدفق ينبوع ماء من جوف الأرض, نصف قرن تمر علي ميلاد الشاشة المصرية حين ظهر صلاح زكي يعلن بداية الإرسال التليفزيوني. وتسارع المصريون وقتئذ ليروا بشرا يتحركون ويتكلمون من خلال صندوق الدنيا العجيب, ووقف الدكتور عبدالقادر حاتم تحتضن عيناه هذا المولود في اللفة, قناة ونصف, ذلك كان عطاء ماسبيرو, والآن قنوات بعدد شعر رأسك! وتعاقب وزراء إعلام, حتي جاء مهندس الإعلام المصري الحديث صفوت الشريف فالتحقنا في عهده بنادي الفضاء وصار لنا أقمار صناعية تسبح في فضاء الدنيا لتجعل منها قرية صغيرة. أتسلق شجرة الذاكرة أيام كان الإعداد التليفزيوني وجبة دسمة مخلصة من المعلومات والشخصيات, توضع أمام مذيعة واعية بالموضوع, تستعد لضيفها وتحتشد له, تناقشه وتصغي له قبل أن تبادره بسؤال جديد, كان الإعداد فنا قائما بذاته وله أصول, أهمها الصورة وإلا تحول التليفزيون الي اذاعة ركيكة, أعطيت جهدي في الإعداد لثلاث مذيعات عشقهن الناس في زماني: ليلي رستم وسلوي حجازي وأماني ناشد, وكنت أتزود بنصائح وتجارب وخبرة الرائد سعد لبيب, كان جيل المذيعات يعمل في جو روقان وتنافس غير محموم وكان حمدي قنديل يقدم( أقوال الصحف) الذي جعل منه برنامجا سياسيا مهما أبعد من مجرد قراءة صحف الصباح الصادرة, وكان المذيع عبدالرحمن علي نموذجا للمذيع الوسيم الملامح هادئ النبرة الي حد الحلم, ثم انقلبت الأوضاع حين ظهرت علي الشاشة بسحنتي وأعطيت ظهري للمشاهدين في جلوس سامية صادق فوق كرسي رئاسة التليفزيون, يوم كنت أستأذن من أحاوره في السؤال وأقول اسمح لي أن أسألك, ذلك اني من جيل تربي علي تقاليد احترام الآخر, فأنا لا أستطيع أن أضع ساقا فوق ساق أمام أحمد بهاء الدين أو محمد حسنين هيكل أو فتحي غانم أو عبدالرحمن الشرقاوي, وأملك أن أحاورهم مهما كان الاختلاف أو الاتفاق بأدب جم وألفاظ منتقاة ومازلت برغم سنوات طويلة طويلة من التجربة علي الشاشات أعطي احتراما لضيوفي الذين يدخلون( مصيدة الحوار). وتغير الزمن الي الأسوأ, فأصبح المذيع يقول من داخل الاستوديو وهو في حالة قرف( طبعا تمثيل): هات لنا يابني المحافظ!! طبعا أيضا المحافظ سبق إعلامه بالمداخلة وقسم الاعداد اتصل به وهو علي السماعة حتي يأذن المذيع!! اللافت للنظر اللغة واللهجة والنبرة التي يستخدمها السيد المذيع, فاللغة ليست كريمة, انه كمن يطلب كيلو كباب, واللهجة خالية من الاحترام والنبرة سيئة وكأنه يطلب محافظ تل أبيب!! هذا الأسلوب يعكس حالة المجتمع وتعاملنا مع رموز وقيادات البلد وهو عنف بشكل ما, وهو إعلام يفتقد أدبيات التعامل مع المسئول, أنا مازلت أخاطب الوزير أو المحافظ أو مسئول مؤسسة باحترام. انها بعض من عشوائيات إعلام هذا الزمان تكشف أن مصر ليست مصر واحدة بل عشرة مصر, ووصل الأمر في هذه العشوائيات الي فضائيات السجال الديني وهي أيضا تبث عنفا بشكل ما, وأفرز كل هذا عنفا في الشارع والمؤسسة والنقابة باعتبار أن الإعلام هو صانع المزاج العام عند الناس. وسط هذا العنف الدخيل علي المجتمع لا يوجد براح أو رحابة في الحوار حول أي قضية إذ يحكم الأمر ذلك الغل في الصدور والتربص في النفوس, وتصبح البطولة في الإعلام أن أشتم المسئول أو أعامله بلا لياقة. أريد أن أقول إن الشاشات أضحت حكرا علي الإعلانات فلم تعد البرامج إلا فيما ندر إعلاما صرفا بل إعلانا وداخله برنامج! وداخل البرنامج يقال ما لا ينبغي أن يقال, والأدهي في الأمر حين يكون ذلك من شاشة الدولة وبرعاية فلان أو علان.. وكلما زادت قلة الأدب والتجاوز في الألفاظ كان نصيب البرنامج قطعة كبيرة من الاعلانات, انها اخلاقيات الإعلان2010 وفي برنامج, أحاله وزير الإعلام للتحقيق وكلف لجنة مراجعة أخلاقيات البرامج للنظر في الحالة المتدنية للحوار وكانت إعلاناته تفوق الوصف وغزيرة! ربما يتساءل أحد: أليس دعوة المحافظ للكلام فيها بساطة المذيع؟ والإجابة البساطة لا تفتعل وهذا تبسط مخل بالذوق لو كنت في موقع المذيع لقلت مهنيا وحرفيا: معاناة الناس معادلة طرفاها المواطن والمحافظ فهذه فلسفة الحكم المحلي, معنا علي الهواء مباشرة السيد فلان محافظ محافظة كذا, اتصلنا به وهذه رؤيته, سيادة المحافظ, اتفضل.. أما غير ذلك فهذه روشنة وعدم مهنية. أنا لا أقصد أحدا بعينه ولكني أناقش حالة مركبات نقص وصيغة لإعادة الهيبة للمسئول في مصر والنقطة الأهم هي تسييد الاحترام والحياء علي الشاشات فلست أبالي بمشاهدة غزيرة اذا كنت أنهج العقلانية ولا أجري وراء شعبية أو زعامة مفلسة, كأن أشتم وزيرا أو أقول بقرف هات يابني المحافظ, أنا لم أتعلم هذا الأسلوب.. وملعونة الشهرة المنسوجة من نفاق العامة, ولماذا أصبح( الاعتدال) فتورا وجبنا وخوفا وانحيازا أعمي للنظام؟ انها كارثة أن نلفت النظر بالصراخ وقلة الحيا, لقد سقط ضلع من مثلث الذوق العام وهو الذوق,