يظل 21 يوليو 1960 يوما من الأيام الخالدة في ذاكرة الشعب والوطن.. ففي ظهيرة ذلك اليوم، تابع الناس ذلك الصندوق العجيب الذي حمل لهم سحرا جديدا بالصوت والصورة ليبدأ أول بث تليفزيوني رسمي وليبدأ عصر جديد في ملحمة البناء. وانتشرت في أهم الميادين بالقاهرة وعواصم المحافظات اكشاك خشبية يتزاحم أمامها الناس ينتظرون الموظف المسئول ليفتح شباكا كبيرا في الكشك تطل منه شاشة التليفزيون ليصطف المواطنون علي «النجيلة» يتابعون الارسال ويشاهدون البرامج والمسلسلات.. واستمرت هذه الاكشاك سنوات طويلة لأن اقتناء جهاز التليفزيون لم يكن متوافرا لكل الأسر.. وكانت هذه المشاهدات الجماعية عبارة عن «ندوة حرة مفتوحة» يتحدث فيها المشاهدون ويطروحون آراءهم وتعليقاتهم علي ما يشاهدونه أمامهم. كان هذا الصندوق الخشبي يمثل حلما، واعجوبة من عجائب الدنيا.. لم يستوعبه الكثيرون في البداية، وأدرك البعض أن هذا الكائن الذي اصبح مع الوقت شريكا اصيلا في البيت يتحلقون حوله جزءا مهما من حياتهم، فلم يكن مدهشا أن نري البعض مشدودا ومشدوها يتابع بوعي أو دونه ما يترامي أمامه من صور واخبار وحكايات، فالسينما بكل سحرها تأتي إليهم مع اضافات أخري، وهو امر في ذلك الزمان كان حدثا كبيرا.. وربما احتاج المشاهدون آنذاك بعضا من السنوات ليتفاعلوا ويندمجوا مع هذا الجهاز العجيب الذي شكل وعي الكثيرين خاصة ممن لا يقرأون أو يكتبون. خمسون عاما مرت وتطور الإعلام في كل مكان بينما كان الاهتمام الأساسي عندنا - خاصة في العشرين سنة الأخيرة- منصبا علي استيراد أحدث آلات التكنولوجيا كما لو كانت الريادة الحقيقية هي الآلة وليس البشر، وتحولت قنوات التليفزيون إلي بوق دعاية فجة للحاكم ورجاله علي حساب الدور الحقيقي للإعلام المرئي في الارتقاء عدد العاملين في التليفزيون المصري الآن يفوق جنود ثلاثة جيوش عربية! ممثلون عاشوا لحظات تصوير «قاسية» بدون مونتاج بالبشر وفتح طاقات للحرية والديمقراطية والابداع والتنوع. وكان طبيعيا أن ينحدر المستوي وتكون الشللية والمحسوبية طريقا للتعيين في التليفزيون ولتذهب القدرة علي الإبداع والموهبة إلي الجحيم. واعتبارا من هذا العدد وفي الأعداد التالية، تقدم «الأهالي» ملفا حول «50 سنة تليفزيون» بكل ما فيها من نجاحات واحباطات كما نقدم من خلالها تحية إجلال وإكبار لكل من ساهمت أو ساهم في بدايات الإرسال واستمراره علي هذا المدي الطويل. رغم قسوة تلك الحياة التي كان يعيشها الممثلون في تلك الفترة المهمة.. حيث كان يستلزم عليهم أن يسجلوا مثلا نصف ساعة كاملة أو أكثر بلا راحة لأنه لم يكن هناك مونتاج في ذلك الوقت حتي يوصل الصور ببعضها ليصنع فيلما كاملا فكان الممثل يؤدي دوره بلا توقف منذ بدء التصوير وحتي نهايته ثم يتم تسجيل الصوت وحده ويتم عرض الصورة.. كل هذا ليخرج لنا مسلسلا جيدا يشاهده الجميع وينتظره «بفارغ الصبر» حيث كان يعرض مرة واحدة في الأسبوع ثم يعاد الجمعة بعد الصلاة، قبل قرارات عرض المسلسلات في الثامنة مساء ثم إعادته كما يحدث الآن.. بشكل ممل يفقد المشاهد متعته أو استعادة الأحداث في خياله.. مسلسلات كثيرة مهمة جدا يحفل بها تاريخ التليفزيون المصري. حملت معها لحظات عناء من ممثلين حرصوا علي فكرة أمام مقابل مادي زهيد وأيضا حملت معها لحظات مشاهدة ممتعة من المواطنين ولحظات مهمة لسنوات ماضية.. نعيد شريط الذاكرة لتلك المسلسلات مع أصحابها لنفتح هذا الصندوق المغلق داخلهم علي تفاصيل أدوار ومشاهد مهمة في حياة التليفزيون المصري. حنين الفنانة نادية رشاد تبدأ بحنينها إلي الماضي وقت أن كان التليفزيون هو المصدر الوحيد للدراما العربية حيث كان رصيد الأفلام الأبيض والأسود يخلق لدي الجميع الصورة المثلي للدراما المصرية فجاء التليفزيون ليعلنها أيضا، الجميع يفهم اللهجة المصرية وتتذكر حيث كانت الأجور زهيدة ولكن الحافز الأدبي أكبر حيث الحقبة الاشتراكية والاستعداد للتضحية من أجل عمل فني جيد، فقد تعلمت نادية رشاد التفصيل والخياطة لتوفيرملابس المسلسلات وكانت المساهمة في تشكيل وجدان الناس في العالم العربي هو الهدف الأساسي الذي يجعل جميع الممثلين حريصين علي المشاركة في المولود الجديد «التليفزيون». بداية الدخول كما تقول نادية رشاد سنة 1968 حيث كانت الأعمال تصب في فكر الدولة، فتبني التليفزيون تقديم أعمال الراحل عبدالمنعم الصاوي مثل «الرحيل، الضحية، الساقية» وتصور في بعضها سطوة الإقطاعي ومعاملته للمعدمين. البداية كانت مسلسل «القاهرة والناس» حيث حفل بسجل لكل السلبيات الاجتماعية التي كانت في حياتنا وقتها بعدما سمحت الدولة بالنقد الذاتي بعد هزيمة 1967. وتتذكر نادية رشاد كيف كان يلتف الناس حول المسلسل بعد صلاة الجمعة في الإعادة، أما الآن فتري أن التليفزيون قد تغير مثله مثل كل مناحي الحياة حيث الدخول في منافسات شديدة ومع ظهور «النجم» تحول الموضوع لعرض وطلب وأبعاد رأسمالية بحتة لا تستفيد حتي من نجومنا. ولكنها تعود لتفخر بمشاركتها في أعمال تليفزيونية حديثة راقية مثل «أم كلثوم» و«قاسم أمين» خاصة كرسالة هادفة أمام التيار السلفي الذي يجرم الفن، وتري رشاد أن الدراما تحولت الآن للأسف إلي التسلية في حين أن دورها أساسا دور تنموي وفكري، وتتذكر برامج «نافذة علي العالم» والمسرح العالمي، وأدب وأدباء، وقصة قصيرة وكلها برامج اختفت من علي خريطة الشاشة الصغيرة. قبلة الفن أما الفنانة سميرة عبدالعزيز فتتذكر أن التليفزيون كان قبلة الفن خاصة أن السينما وقتها أخذت شكلا تجاريا إلي حد ما، وكان أعلي أجر 40 جنيها للحلقة في الدراما التليفزيونية وكان الجميع حريصا علي المشاركة وتعود بذاكرتها للخلف لأول عمل تليفزيوني لها «عندما يختنق الحب» مع المخرجة إنعام محمد علي حيث قدمت دور أستاذة جامعية حتي ظل الجميع يناديها «دكتورة» حتي الآن، أما المسلسل الذي تعتبره من قدمها للناس بشكل أكبر فكان «ضمير أبلة حكمت» مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة حيث تتذكر وقت عرض الحلقة كان يخلو الشارع من المارة ومن يحدث أحد هاتفيا يعتذر لمتابعته للمسلسل خاصة مع عدم إعادة الحلقة، وبنظرة سريعة تري سميرة عبدالعزيز أن مستوي الدراما الآن يقل كثيرا عما قبل فلم يعد الفنانون علي مستوي عال من الفهم والإدراك وانعكست الآية بعدما كان يقدم التليفزيون الوجوه الجديدة والنجوم ثم تجذبهم السينما أصبح نجوم السينما يتاجرون بالتليفزيون علي اعتبار نجوميتهم، بجانب اختفاء أنواع مميزة من الدراما مثل المسلسلات الدينية التي لا تجد منتجا الآن. فنانو المسرح الاعتماد علي فناني المسرح هكذا يري الفنان محمود الحديني البداية التليفزيونية التي اعتمدت في الدراما علي فناني المسرح لقدرتهم العالية علي الحفظ في ظل عدم وجود مونتاج والتصوير لساعات طويلة دون «قطع» مرة واحدة.. ويضيف الحديني أن المجال كان جديدا علي الفنانين ولكنهم تحمسوا له وتابعوه حتي علي مستوي البرامج فالجميع كان فرحا بالحالة. فالعمل الدرامي كان يأخذ وقته وبروفاته، ويتذكر بدايته مع المخرج إسماعيل عبدالحافظ ولم يكن هناك 30 حلقة بل الحلقات لا تتعدي الخمس عشرة حلقة، ويتذكر جيدا ردود الأفعال الجيدة حول مسلسل «هي والمستحيل» تأليف فتحية العسال وإخراج إنعام محمد علي وبطولته مع صفاء أبوالسعود وهو مسلسل يجد صداه حتي اليوم في قلوب المشاهدين. أيضا مسلسل «الحصار» تأليف الراحل أسامة أنور عكاشة ومسلسل «المرسي أبوالعباس» و«الناس والفلوس» وجميعها أعمال لاقت نجاحا وعزفت علي وتر الفكر والقيم والأخلاق. النجاح كما يفسره الحديني للدراما المصرية وقتها كان لبحث الممثل عن القيمة لا عن الأجر فكان يحصل الفنان محمود المليجي مثلا علي أجر لا يتعدي أربعين جنيها، أما المقارنة الآن لا يجدها الحديني في صالح التليفزيون المصري حيث سيطرت شركات الإعلان علي الدراما حتي أن قطاع الإنتاج يبحث عن نجوم ليسوا مناسبين للأدوار ولكنهم سيأتون بإعلانات وبالتالي دوره أصبح مجاراة القطاع الخاص. أما الفنانة محسنة توفيق صاحبة الرصيد الكبير في العمل علي شاشة التليفزيون فقد فسرت حبها للدراما بحب «الحكاوي» منذ طفولتها لهذا تردد قائلة «علاقتي بالمسلسلات اللي بحبها زي علاقتي بحواديت أمي» فتؤكد أنها ممتنة للتليفزيون لأنه ساعدها علي الاستمرار في العمل الفني وقبل شروطها في العمل التي لم تتنازل عنها من قيمة جيدة للعمل الفني وهدف، وتؤكد محسنة أنها اكتشفت أن حكاوي التليفزيون لتصنع علاقة عميقة مع الناس وهي من الأساس تفضل أن تكون جزءا من عموم الناس، وتتذكر مسلسل «هارب من الأيام» تأليف ثروت أباظة وإخراج نور الدمرداش ودور سلمي التي تعشق رجلا غير زوجها وموتها وتأثير هذا الدور في الناس واهتمامهم بمشاهدة المسلسل حتي إغلاق المحلات وقت إذاعته، أيضا مسلسل «الرجل والطريق» وأدوار الملكات التي قدمتهن من زمن الفراعنة، وأيضا ليالي الحلمية وبرغم كل هذا الحب للتليفزيون يحزنها أنها لم تعد تشاهده ولا يجذبها أي شيء به وكما تصفه تري حواديته الآن «مفبركة» بالرغم أن الحقيقة غنية جدا. تؤكد محسنة حساسية الناس وذكائها الشديد، ذلك الذكاء الذي جعلهم يرفعون النجوم لأعلي في لحظات الصدق، لهذا تتمني أن يعود التليفزيون المصري لحاله الأول معبرا عن الناس مقدما لهم الحقيقة والفكر والوعي.