لم يكن يدر بخلدي يوما ما أن أكتب عن العلاقة بين القضاة والمحامين, ذلك أن تلك العلاقة من أبجديات العمل القضائي, وبديهيات آلياته, فهما رفقاء طريق واحد . هو القوامة علي تحقيق العدل, فلا يستقيم العدل إلا من قاض استقام تجردا ووجدانا.. يؤمن بالحق دستورا وكيانا.. فإذا ترافع أو حكم كان العدل غاية وعنوانا... فالقضاة والمحامون صنوان, فكلاهما رجل قانون, الأول يسهر علي تطبيقه والثاني يترافع لأجله, ويتساند كلاهما في حمل وتحمل الأمانة العظمي التي ناءت عن حملها الجبال الرواسي فقبلوها طائعين, طامعين في ثواب الله عاجله وآجله. والحرص علي تدعيم توقير القضاة وترسيخ هيبتهم هو من أوجب واجبات المحامين أنفسهم, لأنهم يستمدون منهم وقارهم وهيبتهم, الكامنة في نفوس وضمائر المتقاضين الذين يهرعون إليهم طالبين الذود عن حقوقهم وحرياتهم من عسف وإعنات الآخرين بهم بما يؤكد مبادئ حقوق الإنسان.. وفي مقولة خالدة للسيد الرئيس محمد حسني مبارك في مؤتمر العدالة عام1986 قال:' إن احترام المنصة العالية التي ترعي بكل الهيبة والجلال سيادة القانون العادل, هي أولي مسئوليات الحكم والتزاماته, وهي معيار إيمان جميع الأطراف في الحركة الاجتماعية بجوهر الديمقراطية والحرية.' ذلك لأن القضاء- كما عرفه المرحوم المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل الأسبق_ هو:' قبس من نور الله الحق; به بعث أنبياءه ورسله ليقيموا حجته علي خلقه, ومن هنا كانت ولاية القضاء من أعلي الولايات قدرا وأجلها خطرا وأعزها مكانا وأعظمها شأنا; لأن بها تعصم الدماء وبدونها تسفك. وتحرم الأعراض, وبدونها تهتك. وبها تصان الأموال, وبدونها تسلب. وبها أيضا نعلم ما يجوز في المعاملات وما يحرم منها, ويكره, ويندب'. والمحاماة من الحماية والمحامون هم وجهة التنوير والإرشاد والمعاون للقضاة, ومن أبلغ ما قيل في وصف المحاماة وتقديرها ما قاله دوجيسو رئيس مجلس القضاء الأعلي بفرنسا في عهد لويس الخامس عشر:( المحاماة عريقة كالقضاء- مجيدة كالفضيلة- ضرورية كالعدالة.. هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلي الثروة مع أداء الواجب- حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان- المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبدا له- ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلا بغير ولادة, غنيا بلا مال, رفيعا من غير حاجة إلي لقب, سعيدا بغير ثروة).. فالقضاة والمحامون_ والحال كذلك- هم حملة مشعل واحد ورسالة واحدة وهما توأمان لا يفترقان وجزءان يتمم كل منهما الآخر فلا ينفصلان إذ لا قضاء بدون محاماة ولا محاماة بدون قضاء. بيد أن ما شهدته تلك العلاقة مؤخرا من نتوءات طفيلية في الجسد القضائي الواحد, وتداعياتها المؤلمة أمام الرأي العام بأنهم فرقاء.. هو ما دعاني_ فقط_ إلي التذكرة بتأصل وتجذر تلك العلاقة حتي النخاع, وتحضرني هنا صورة بديعة سطرها بقلمه الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي نقيب محامي مصر الأسبق, في معرض تقديمه لكتاب, نشر في ايطاليا سنة1936 و ترجمه إلي العربية سنة1957 المحامي حسن جلال العروسي, وهو عبارة عن لوحة قلمية من أدب القضاء رسمها مؤلفه الفقيه الايطالي الكبير بيرو كالمندري.. يحدثنا فيه عن أن أول واجبات المحامي هو الإيمان بالقضاء, وعن آداب السلوك في المحكمة, وعن أوجه الشبه و التباين بين القاضي والمحامي, وعن الخطابة القضائية و ما ينبغي أن تكون عليه, ويلخص المحامي حاله فيقول:'.... هذه حياتنا يا أخي القاضي إذا قصرت استنفدتنا بانطلاق لا يعرف التريث وجهد موصول لا يعرف الراحة.. و إذا استطالت أسلمتنا للنسيان, والضياع والجحود... هذا مصيرنا, مصير عجيب. فالقضاء والمحاماة لا غني لأحدهما عن الآخر. وهما شركاء في إقامة ميزان العدالة, شركاء في الثقافة, شركاء في الحياة القانونية, شركاء في الهدف, شركاء في التضحية. فللقضاء ضحاياه من القضاة, وللمحاماة ضحاياها من المحامين, فكم من قضاة يضحون بصحتهم وحياتهم في أداء مهمتهم السامية ويرهقهم العمل إلي درجة الإعياء ثم الاستشهاد. وكم من محامين يضنيهم الجهد بعد أن بذلوا عصارة حياتهم فيسقطون ضحايا المهنة. فهؤلاء وأولئك هم ضحايا القضاء و المحاماة. وقد كان والدي_ رحمه الله_ واحدا من هؤلاء الضحايا.. إذ سقط شهيدا في محراب المحاماة وهو يؤدي واجبه المقدس قبل نحو خمسة عشر عاما, ولا زالت سيرته ومسيرته العظيمة موضع تقدير واحترام لكل من عايشه سواء من القضاة والمحامين. و لنا في العالم الجليل الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور الأسوة الحسنة; إذ يعد واحدا من أهم رجال القضاء و المحاماة في مصر في العصر الحديث; إذا بدأ حياته العملية وكيلا للنيابة العمومية عام1953 ثم اختير بنيابة النقض الجنائي عام1956 ليسجل بذلك سابقة رائدة و يحوز تقدير واحترام كبار المحامين حينذاك.. ثم انتقل عام1959 للجامعة وعمل بالمحاماة لسنوات عديدة حتي تعيينه وزيرا للتعليم عام1986 لتظل محاضراته و مرافعاته في ساحات المحاكم نبراسا يسير عليه القضاة وأعضاء النيابة العامة في أحكامهم و قراراتهم ومذكراتهم. أيا حكماء القانون ورجالاته.. تعالوا إلي كلمة سواء.. تجمع ولا تفرق.. تتكامل ولا تتنافر.. تخضع لسلطان القانون ولا تعلو عليه, فأنتم القوامون علي سيادة تطبيق القانون دون سواه.. تعالوا ننفض غبار الضغينة والبغضاء.. ويعود القضاة والمحامون كدأبهم دوما رفقاء وليسوا فرقاء.