أمس افتتحنا بيت الشعر المصري, آملين أن نجعله رئة جديدة يستعيد بها هذا الفن العظيم قدرته علي أن يخرج من عزلته المفروضة عليه, وأن يتصل بالحياة من جديد, وينفعل بما تزخر به من أحداث متدفقة, وتحولات عميقة, وأسئلة جوهرية مطروحة علينا في كل مجال لا يجيب عليها إلا الشعر, فالسؤال الجوهري يتطلب جوابا جوهريا يضئ الواقع ويجدد الرؤية ويحفز الطاقات. وهذا ما يقدمه لنا الشعر الذي يجمع بين العلم والفلسفة, أي بين المعرفة الجزئية والمعرفة الكلية. الشعر يخرج من المعني الظاهر الي المعني الباطن, وينفذ من النسبي إلي المطلق, يبدأ من الصورة المرئية, لكنه لا يراها بالعين وحدها, بل يراها بالحواس كلها, وينفعل بها ويندمج فيها, ويخاطب قلوبنا وعقولنا وأجسادنا بما يملك من أدوات معنوية وصوتية لايملكها فن آخر أو لغة أخري, فالشعر رمز ومجاز, وتصوير وتفكير, وتخييل وموسيقي. هذا الغني الذي تتميز به لغة الشعر ليس غني مجانيا, وليس امتيازا تتمتع به دون مقابل, وإنما مقابله الوظيفة التي تؤديها لغة الشعر ولا تؤديها لغة اخري, ووظيفة الشعر كما أشرت في السطور السابقة ان يقبض علي الحقيقة بكل أبعادها وتفاصيلها وألوانها برؤية واحدة تتجلي فيها الحقيقة بكل ما فيها من حياة وبهاء. ومن المؤكد ان حياتنا لا تتسع دائما لخوض هذه التجربة أو لطلب هذه المعرفة الشاملة, فنحن لسنا في كل وقت فلاسفة, ولسنا في كل وقت متصوفين, وإنما نحن نأكل ونشرب, ونسعي في الطرقات, ونمشي في الاسواق, ونفكر في يومنا الذي نحن فيه أكثر مما نفكر في أمسنا وغدنا, ولهذا لا نحتاج في كل ساعة للشعر الذي يعتبره البعض ترفا نستطيع الاستغناء عنه, وخاصة في الظروف الراهنة التي نواجه فيها مشكلات ملحة تستغرق وقتنا وتثقل كواهلنا. ما الذي يستطيع الشعر أن يقدمه لشعب مازال يعيش في الزمن الذي تجاوزته معظم شعوب العالم منذ قرون؟ ما الذي يستطيع الشعر ان يقدمه لينقذنا من الفقر والقهر والتخلف والبؤس والتطرف والكآبة والخرافة والمهانة والاستبداد؟ نحن نحتاج لتعليم حقيقي نعرف به أنفسنا ونعرف العالم. نفهم به الماضي والحاضر, ونكتشف به الطبيعة ونسخرها لتأمين حياتنا وتلبية مطالبنا, ونحتاج لطب مسئول مهنيا وأخلاقيا نواجه به عوامل الفساد, ونستشعر به الأمن والثقة في المستقبل. ونحتاج لدستور مدني ننظم به حياتنا ونعرف ما يجب لنا من حقوق, وما يجب علينا من واجبات. ونحتاج لاقتصاد مثقف جرئ نشيط قادر علي تنمية الثروة القومية واستيعاب الأيدي العاملة. لكن كيف؟ هل يكون التعليم بغير فهم لمعني المواطنة ودروس التاريخ ومطالب الحاضر والمستقبل؟ وهل يكون التأمين الصحي بغير أخلاق؟ وهل تكون المواطنة بغير ديمقراطية؟ وهل تكون الديمقراطية بغير فصل بين الدين والدولة, وبغير تمييز بين حكم الشعب وحكم المماليك؟ باختصار هل تكون تنمية, أو يكون تقدم, أو يكون تحرر بغير علم صحيح, وضمير حي, وغيرة وطنية, وحب للحياة وإيمان بالحرية؟ هل نتقدم ونتحرر بدون هذه التربية وهذه الثقافة؟ إن الاصوليين الذين يروجون للدولة الدينية إنما يعتمدون علي جهلنا بالأصول التي لايقرأون الا ظاهرها, ولايفهمون إلا حروفها, وكذلك يفعل الطغاة الذين يستبدون بالحكم وينفردون بالسلطة والثروة, فهم يحتكرون كل شيء, ويراقبون كل شيء, ويحرموننا من أن نقرأ ونفكر, ونصحح ونغير, ونقارن بين الحياة التي نعيشها والحياة التي يعيشها الآخرون. الثقافة هي طريقنا للخروج من هذا السجن المظلم الخانق, فإذا كانت الثقافة علما نكتشف به الطبيعة في مجالاتها المختلفة, ونعرف كل ظاهرة من ظواهرها, وكل عنصر من عناصرها, وكل قانون من قوانينها معرفة موضوعية قابلة للتجريب والتطبيق, وإذا كانت فلسفة نعقل بها العالم ونحوله الي نظام من التصورات والأفكار, وإذا كانت عقائد دينية نعرف بها مالا تدركه أبصارنا أقول إذا كانت الثقافة هي هذه العلوم وهذه المعارف التي تختص كل منها بمجال من مجالات الحياة, فالشعر هو أساس الثقافة, لأنه معرفة شاملة تحيط بالجزئيات والكليات, وبالمرئي وغير المرئي, وبالطبيعة وما وراء الطبيعة. الشعر قادر علي التجسيد والتجريد, وهو رؤية للعالم المشهود ورؤيا للعالم المنشود. وهو تاريخ وعبرة وحكمة ونبوءة. باختصار الشعر كما قلت معرفة شاملة نعيشها بكل جوارحنا, ونشارك جميعا في إنتاجها واستقبالها. فالشعر ليس مقصورا علي فئة تشتغل به كما في العلم الذي يتخصص فيه الأطباء والفلكيون والكيميائيون, أو الفلسفة التي لايقدر عليها الا الفلاسفة, أو الدين الذي نرجع فيه إلي الفقهاء والقساوسة, وإنما المعرفة الشعرية معرفة فطرية حدسية متاحة للجميع, للقبائل البدائية والأمم العريقة, للشعراء وغير الشعراء وللمثقفين والأميين. من هنا بدأت الفلسفة بالشعر, وبدأ العلم بالشعر, وبدأ الدين بالشعر, وحتي اللغة, فقد بدأت بالشعر ايضا. أفلاطون بدأ شاعرا يقرأ هوميروس وينظم الشعر المسرحي, وابن سينا الطبيب الفيلسوف كان شاعرا ايضا وقصيدته في النفس التي مزج فيها بين الشعر والعلم والفلسفة معروفة للجميع, وإخناتون المبشر بالتوحيد; كان شاعرا, وأنبياء بني اسرائيل, داود, وسليمان, وأرميا كانوا شعراء, وكبار المتصوفة المسلمين الحلاج, ومحيي الدين بن عربي, وعمر بن الفارض شعراء, ولقد بدا القرآن الكريم لأهل مكة شعرا حين سمعوه لأول مرة, والشعر إذن اساس في كل وعي وفي كل معرفة, فلا علم بلا خيال, ولا دين بلا عاطفة, ولا أخلاق بلا ضمير. من هنا نحتاج الي الشعر, لاننا نحتاج الي الوعي, والشعر أساس في كل وعي, لأنه علم وخيال, وعاطفة, وضمير نحتاج لها جميعا لنخرج من الفقر والقهر, والتخلف والبؤس والتطرف والكآبة والخرافة والمهانة والاستبداد. الشعر اذن ليس ترفا ولكنه ضرورة. وقد افتتحنا بالأمس, نحن الشعراء المصريين ومعنا الفنان فاروق حسني وزير الثقافة بيت الشعر المصري.