كنت قد قررت بيني وبين نفسي ألا أتحدث عن بيت الشعر إلا بعد أن يصبح حقيقة واقعة, وكان هدفي من تأجيل الحديث عنه أن أختبر قدرته, وهو ضيف جديد طارئ علي أن يقدم نفسه بنفسه واختبر استعداد الجمهور لاستقباله وفهم رسالته, دون حاجة لمن يتوسط له عند الشعراء والمهتمين بالشعر, خاصة إذا كان هذا الوسيط هو صاحب فكرة إنشائه, فكلامه عنه قبل أن يمارس نشاطه ويثبت حقه في الوجود ربما أسيء فهمه, فاعتبر حديثا عن النفس لا أرضاه ولا أحتاج إليه.. ولهذا أجلت الحديث عن بيت الشعر حتي يكون كلامي عن معلوم يعرفه القارئ ويستطيع أن يشارك فيه بما يراه. ولقد تم افتتاح بيت الشعر قبل أكثر من شهرين.. والفضل يرجع للفنان فاروق حسني وزير الثقافة الذي تحمس للفكرة حين عرضتها عليه قبل عامين, وطالبني بتصور مكتوب قرأه وأقره وحوله إلي صندوق التنمية الثقافية لتنفيذه, بعد أن خصص لنا بيتا يليق بفننا العريق ويعد من أجمل البيوت الأثرية في القاهرة القديمة, وهو المعروف ببيت الست وسيلة, وكانت جارية جميلة أعتقتها سيدتها وأسكنتها هذا البيت في أواسط القرن التاسع عشر.. وقد تم تأثيث البيت وصدرت له لائحة توضح رسالته وتنظم عمله.. وشكل له مجلس أمناء يضع برامجه ويتابع نشاطه يضم عددا من الشعراء والنقاد المعروفين ومن المسئولين في مؤسسات وزارة الثقافة. وهكذا افتتح البيت في نهاية مايو الماضي, ومارس نشاطه في أمسياته التي تحرينا أن نعقدها أيام الأحد, حيث يخف الزحام قليلا في ذلك الحي العريق, وخصصنا كلا منها لجانب من جوانب الحركة الشعرية أو لنجم من نجومها بالمناسبة الأمسية الماضية خصصت للشعر الصوفي, والأمسية القادمة مخصصة للشاعر الأستاذ فاروق شوشة وقد تابعت الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية هذا النشاط, وأصبح للبيت جمهور ينمو ويتسع يوما بعد يوم, فبوسعي الآن أن أتحدث عنه بادئا بهذا السؤال: لماذا بيت الشعر الآن؟ والجواب: لأنه يقوم بوظيفة لا تقوم بها مؤسسة أخري أو منبر آخر من المؤسسات والمنابر القائمة.. هذه المؤسسات وهذه المنابر تفكر للشعر, وتحتفل به وبأصحابه, وتنشره علي الناس.. وهو نشاط مهم وحيوي, لكنها تؤدي فيه دور الوسيط بين الشاعر وجمهوره اللذين لم يكونا في حاجة ملحة إلي هذه الوساطة من قبل, لأن الحياة في العصور الماضية كانت تجمع دائما بينهما في لقاءات حية ينفعل فيها كل طرف بالآخر ويحاوره ويبادله, في مجالات العمل, وساحات القتال, وفي الأعياد والمواسم وفي المسارح والمقاهي. وقد أصبحت هذه اللقاءات نادرة ضمن شروط الحياة في العصور الحديثة التي فتحت للبشر آفاق التعارف والاتصال, لكن من خلال وسائط أغنتنا بها عن اللقاء الحي, وحولتنا جميعا إلي متفرجين خرس, نتابع ولا نتكلم, ونشاهد ولا نشارك, وقد أثرت هذه التحولات في فن الشعر, وباعدت بين الشاعر وجمهوره اللذين لم يعودا يلتقيان إلا في المناسبات أو علي صفحات الكتب والمجلات المتخصصة.. وهي لقاءات تتم من علي البعد في مساحات ضيقة لا تكفي فن الشعر الذي لا يستطيع أن يستغني عن اللقاء الحي. يستطيع الرسام مثلا أو النحات الذي يفرغ من رسم لوحته أو نحت تمثاله أن يعرض عمله علي جمهور الفن الذي يستطيع أن يشاهد العمل بعيدا عن الفنان الذي أنتجه. وكذلك يستطيع الروائي أو الفيلسوف أن يخاطب قارئه من وراء ستار, لأن الرواية تستخدم لغة قريبة من اللغة المتداولة في الحياة الاجتماعية, تصف وتسرد وترسم للقارئ عالما يراه ويعيشه ويتابع بنفسه ما يجري فيه بعيدا عن كاتب الرواية.. وكذلك يفعل الفيلسوف والعالم والباحث الذي يعرض أفكارا, ويناقش قضايا مجردة.. أما الشاعر فيستخدم لغة خاصة به تختلف عن لغة النثر وعن لغة الاتصال والتفاهم يتجاوز بها المنطق المألوف ويتغلغل في الأعماق ويربط بين الظاهر والباطن, والماضي والحاضر, والواقع والخيال, ومن هنا يستحضر اللغة بكل فنونها, ويستخدمها بكل طاقاتها, أي بما هي أصوات, وصور, وأفكار, وإشارات, ورموز. وإذا كان الشاعر لا يستطيع أن ينظم قصيدته إلا بهذه اللغة التامة, فالجمهور لا يستطيع أن يتلقي الشعر إلا بها.. والقصيدة التي لا يهمنا فيها إلا المعني, أو التي نطالعها بعيوننا حروفا صامتة منشورة في الصحيفة أو في الكتاب قصيدة ميتة أو خرساء. وكما تكون لغة الشعر لغة ناطقة.. فلغة الشعر صور نابضة بالحياة لا تتجرد ولا تكون محايدة أبدا, وإنما تتلبس بصوت الشاعر وتتشخص فيه وتتحدث بلسانه.. فالضمير المستخدم في القصيدة هو ضميرالمتكلم.. والشعر إذن لا ينفصل عن الشاعر الذي لا يستطيع شعره أن يصل إلي الجمهور بكامل طاقته إلا إذا أداه بصوته, أو بأصوات الذين يعرفون للغة حقها, ويستطيعون أن يقرأوا الشعر, ويتمثلوه, وينفعلوا به, ويؤدوه كما يجب أن يؤديه صاحبه. وفي كل الأحوال يحتاج الشعر إلي هذا اللقاء الحي, وإلي مكان يحتضن هذا اللقاء الذي لابد أن يتحقق بين الشاعر وجمهوره.. يحتاج إلي بيت آخر غير البيت الذي تتشكل به القصيدة.. هذا البيت يتألف من كلمات يسكنها المعني والإيقاع.. أما البيت الآخر فهو البيت الجامع الذي يلتقي فيه الشاعر بجمهوره. وأنا أتحدث هنا عن الشاعر بصيغة المفرد, وأقصد كل الشعراء المصريين.. الشباب والكهول والشيوخ, المجددين منهم والمحافظين, شعراء الفصحي وشعراء العامية, وشعراء العاصمة والأقاليم.. هؤلاء جميعا عائلة واحدة.. وبيت الشعر هو بيت العائلة التي تتعدد أجيالها, وتختلف طرقهم في الحياة والفن, لكنهم ينتمون جميعا لفن واحد يغتني بهذا التعدد الذي يجب أن نحذر فيه من التشتت والتشرذم حذرنا من المحاكاة والتقليد. ولاشك في أن وجود البيت يقوي الشعور بالانتماء الذي تراجع في كل المجالات, ويلفت النظر إلي القضايا المشتركة والأسئلة المطروحة علي الجميع. والحديث لم يكتمل بعد, فإلي اللقاء في الاسبوع القادم.