أسامة أنور عكاشة يتصدر مجموعة لايتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة أسهمت في تطوير الدراما التليفزيونية. يتصدرهم لأنه أول الذين كتبوا أدبا دراميا رفيع القيمة فكرا وفنا للتليفزيون مباشرة فإذا كان أديب نوبل نجيب محفوظ يكتب للقراء ومثله كل السابقين عليه ومن جاءوا بعده, لذلك كان أديب نوبل إذا ما واجهه أحد من النقاد برأي في فيلم سينمائي أو مسلسل مأخوذ عن أحد أعماله.. فقد كان يرد علي ذلك بعدم مسئوليته عن العمل الفني, ولكنه مسئول فقط عما جاء في الكتاب المنشور. أما أسامة أنور عكاشة فقد كان في كل ما أبدعه للدراما التليفزيونية يكتب مباشرة للشاشة أي للمشاهدين وليس للقراء, أيضا يتصدر عكاشة زملاءه من كتاب الدراما التليفزيونية في انه أول وأهم الذين كتبوا الأجزاء للمسلسلات التليفزيونية, مثل ليالي الحلمية, والمصراوية. منذ25 سنة تقريبا اتصل بي الفنان المخرج محمد فاضل ليقول لي إن هناك مسلسلا لاسامة أنور عكاشة, تصر الرقابة علي حذف مشاهد منه لأنها تري أن المؤلف يحرض المواطنين علي التصدي للحكومة ولما تصدره الجهات الادارية من قرارات, وقد رفض عكاشة الخضوع لما تراه الرقابة, لانه يري أن الحذف سيدمر المسلسل ويصبح غير صالح للعرض, وأضاف فاضل والحقيقة انني كمخرج للعمل حاولت أن أقنع أسامة بأنني سأحاول التخفيف من حدة ما سيحدثه قص المشاهد من أثر في نفسية المشاهد, بحيث يصله المضمون الذي أراده المؤلف, لكنه يصر علي الرفض, ثم أردف فاضل قائلا: الديك مانع في أن أرسل لك الحلقات لتراها وتبدي رأيك إن كنت لا تمانع, وأرسل لي محمد فاضل الحلقات, وكانت لمسلسل[ الراية البيضا] وعلي ما أتذكر فقد كانت من23 أو25 حلقة. لجمال الحلقات وخطورة الموضوع الذي تحلله وتناقشه فقد شاهدت المسلسل علي مدي ليلتين متتاليتين, وكان يثير قضية فيلا السفير أبوالغار الذي يعود إلي مصر بعد انتهاء خدمته, ليجد قرارا قد صدر بهدم الفيلا الجميلة التي يسكنها مطلة علي البحر لتحويلها إلي عمارة سكنية ضخمة, وذلك ضمن هجمة شرسة لأثرياء زمن الانفتاح لمزيد من الإثراء ولو علي حساب الجمال والحس الحضاري والبيئة النظيفة, ويمثل تلك الفئة فضة المعداوي بائعة السمك في بحري والتي لعبت دورها بمهارة الفنانة سناء جميل مستخدمة وسائل الافساد من رشوة وارهاب لتحقيق ما تريد. ويكشف المسلسل تصدي مجموعة من شباب مثقفي الاسكندرية ومواطنيها مع السفير أبوالغار والذي لعب دوره جميل راتب للهجة الشرسة. وكان أهم ما تعترض عليه الرقابة هو مشهد تصدي المواطنين بأبدانهم لزحف البلدوزر وهو يتحرك الي الأمام لهدم الفيلا. وكان هذا المشهد في الدراما التليفزيونية هو أول تصد يقوم به المواطنون المصريون منذ خمسينيات القرن الماضي لتصرف يرون أنه خاطئ وتريد الجهات الادارية تحقيقه بالقوة, ولظلم سيقع, أو إساءة لقيمة وجمال وتنسيق حضاري!. وقد كان أسامة أنور عكاشة علي حق, والمسلسل تنتهي أحداثه في آخر الحلقات بالبلدوزر يتوقف عن التقدم علي بعد سنتيمترات من المواطنين الصامدين أمام المبني الجميل يحمونه بأيديهم.. ولينتهي المسلسل بلافتة تقول: حتي إشعار آخر. وصح ما توقعه أسامة وفاضل, حيث أصبحنا نري انتصار القبح بجميع نوعياته وسقوط الكثير جدا من القصور الصغيرة والفيلات الجميلة وارتفاع المباني الضخمة التي حجبت الهواء ليس في الاسكندرية فقط, ولكن في كل المدن المصرية! انه عمل واحد صغير من ابداعات أسامة أنور عكاشة المفكر بلا نظير في هموم مصر وتراثها وقيمتها الحضارية من خلال الدراما التليفزيونية, والمحرض بها علي التصدي للقبح, ولكل ما يشوه تراث المصريين وأصالتهم, وذلك في كل أعماله. المزيد من مقالات محمد صالح