يثور كلام كثير في هذه الأيام بمناسبة الأزمة التي تناقلتها وسائل الإعلام حول مياه النيل بين دول المنابع ودول المصب, منها أن مصر خلعت نفسها من القارة السمراء في السنوات الماضية وذهب البعض إلي أن مصر تنكرت لدورها الريادي عندما كانت تصدر الثورات إلي إفريقيا, وتدعم حركات التحرير الوطني في كل أرجائها, والإنصاف يقضي بالتمييز بين شيئين, الأول هو أن مصر دولة إفريقية بامتياز, وأذكر في هذا الشأن لقاء جمعني ذات مرة بالرئيس السنغالي الأسبق( سنجور), وهو في الأصل كاتب وشاعر رقيق يكتب باللغة الفرنسية, ودار حوار في منزله عن قضايا القارة الإفريقية ومبدأ الزنوجية الذي يعتبر من أبرز مؤسسيه في الأدب والفكر والسياسة, امتد بنا الحديث ليدور حول مصر, وأشهد أن ذاكرتي لاتزال تختزن فيضا من الأوصاف التي أطلقها سنجور علي مصر, منها أنها عروس إفريقيا الحسناء, وأنها ليست فقط أم الدنيا, وإنما أم الحضارات, وقال سنجور في لهجة لا تخلو من تقدير وامتنان: إنني أفضل أن أنادي أرض الكنانة بمصر الأم. بل إن عجلة التكتل الشهير الذي كان معروفا بعدم الانحيازي انطلق من إفريقيا, وكان من بين أبرز قادته رؤساء أفارقة مثل سيكيتوري في غينيا, كما ارتبط نكروما( في غانا) وجدانيا بمصر, لكن يخطئ من يعتقد أن هذه المرحلة قد مرت مرور الكرام في تاريخ القارة, فها هو رئيس حكومة كينيا الذي زار مصر قبل أيام يتحدث بإعجاب عن مصر, ويقول: إن جده كان يروي له حكايات عن مصر واصفا إياها برمز إفريقيا الصاعد, ويقول باعتزاز: إن والده كان يحدثه عن الرئيس عبدالناصر, وفي هذا السياق يذكر دبلوماسي إفريقي أن عام1955 الذي يعرف بعام باندونج حمل كل المولودين فيه اسم جمال أو ناصر أو عبدالناصر تيمنا بالبطل الإفريقي الذي قاد حركات التحرر في القارة السمراء انطلاقا من مصر. الشيء الثاني الذي نود الإشارة إليه هو أن هذه العلاقة ظلت قائمة وإن بدا للبعض أنها اختفت, والصحيح أن متغيرات إقليمية ودولية كثيرة قد أثارت ما أثارت في نهر العلاقات بين دول القارة, وهذا أمر طبيعي, فالسياسات بين الدول تعلو حينا وتهبط حينا, لكن خيط المصالح لا ينقطع, وهو ما حدث بين مصر وإفريقيا. فالصندوق الإفريقي داخل وزارة الخارجية المصرية لم تتوقف المعونات التي يقدمها في جميع المجالات, وإن لم يمنع ذلك من الحديث عن ضآلة هذه المعونات أو محدوديتها, وأذكر أن أستاذنا الدكتور بطرس غالي وهو أحد أبرز رجال السياسة المصريين الذين بنوا جسورا شتي مع القارة, وكانت تربطه علاقات صداقة ودودة مع عدد كبير من قادتها ورجال الحكم فيها, التقي ذات مرة بالجالية المصرية في باريس وحرض الشباب من الأطباء والمهندسين علي ترك دول الشمال( وفرنسا) والاتجاه جنوبا, وقال: إن الحكومات الإفريقية سوف تكرم وفادتهم إذا ما قرروا الذهاب إلي هناك, وقال أيضا, ولا أحسبه كان مغاليا, إن مستقبل مصر سيكون رهنا بإفريقيا, كما أن مستقبل القارة مرتبط بمصر. بكلمة أخري إن الجغرافيا المصرية تشدنا شدا نحو القارة السمراء, وكلنا يعرف أن دماء شعوب القارة قد اختلطت دفاعا عن الاستقلال, وطلبا للحرية والكرامة في مواجهة مستعمر جثم علي صدورنا عشرات السنين, استنزف منها خيرات بلادنا, ومواردنا الطبيعية, ومن قبيل الدعابة ذات المغزي أذكر أني دخلت أحد المدرجات الخشبية الشهيرة في جامعة السوربون الذي يحمل اسم أحد أساتذتها الكبار, فهمس زميل سنغالي في أذني وهو يقرب بقدميه الخشب الذي يملأ أرض وجدران المدرج وقال: إن هذه الأخشاب الجميلة والمتينة هي من إنتاج بلادي, لكن المستعمر الفرنسي سرقها مع ما سرق من معادن وأصول وثروات! وقد نفهم في هذا الصدد أن يوجه شباب القارة السمراء نقدا لمصر من باب المودة علي أنها ربما لا تولي قضايا إفريقيا الاهتمام المأمول عبر وسائل إعلامها, فذكر رهط من الدبلوماسيين كنت أحاضرهم حول علاقة الصحافة بالسياسة داخل قاعات المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية أن الميديا المصرية تقع في تناقض مع نفسها, فهي لا تفسح المجال في التغطية الإخبارية والتحليل لإفريقيا إلا بالكاد, بينما تشغل أخبار أمريكا وأوروبا كل المساحات, ويكمن التناقض في أن إفريقيا يأتي منها شريان الحياة( وهو النيل), أما أمريكا وأوروبا فلم يأت منها لمصر سوي الاستعمار والانتداب, والحملات الصليبية, وتقول فتاة دبلوماسية من أوغندا: نحن نبحث في الصحف المصرية عن إفريقيا فلا نجدها, إلا بصعوبة شديدة! وفي اعتقادي أن هذه الأزمة الخاصة بمياه النيل أصبحت اليوم كملف في أيدي الرئيس مبارك الذي يدير الحوار بحنكة, وخبرة, وكلمة لا تتوافر في شخص آخر, وهو ما يبعث الأمل في أن هذه القضية ستكون سحابة صيف. لكن تبقي هناك مجموعة من الدروس التي يجب أن نستخلصها ومنها عدم الإنجرار وراء إعلام غير مسئول روجت له وكالات الأنباء وبعض الفضائيات عندما تحدثت عن استعدادات عسكرية هنا وهناك, وغاب عنها أن مصر هي رافعة شعار نزع فتيل الأزمات بالطرق السلمية, وقد مارسته في قضايا وأزمات ساخنة كثيرة. ولئن كانت مصر تنادي بحل الأزمات بعيدا عن التجييش والعسكرة, فهل يعقل أن تتجه إلي معالجة قضاياها هي بغير ذلك! الدرس الثاني هو أن تخصص الميديا المصرية مساحات أكبر, ومعالجات أشمل للقضايا الإفريقية التي تمس قضايانا مثل التنمية والنهضة, والتكنولوجيا, واستصلاح الأراضي, وتوليد الكهرباء. الدرس الثالث هو الدفع باتجاه إنشاء مفوضية تجمع دول حوض النيل تكون المرجع والحكم في كل النزاعات التي قد تنشب لأمر ما بين هذه الدول أو تلك, وهو الاقتراح الذي طرحه الرئيس مبارك, ولقي اهتماما إفريقيا وإقليميا ودوليا كبيرا. الدرس الرابع هو أن نفتح أعيننا إلي أقصي حد علي التحرك الإسرائيلي في القارة, فكلنا يعلم أن إسرائيل تعبث بأصابعها في كل الأماكن, وتراود بعض الدول عن نفسها, وتعرض خدمات ومعونات يسيل لها لعاب بعض النخب. ففي دارفور لا تخطئ العين أصابع إسرائيل, ووراء الإعلام غير المسئول الذي خطط لإشعال الحرائق في دول المنابع. ترصد العين التحركات الإسرائيلية المشبوهة, ولعل آخر هذه التحركات الوفود التي بعث بها وزير الخارجية ليبرمان لغواية بعض الدول الإفريقية واستعدائها ضد مصر تحت ستار تقديم المعونات. يبقي أخيرا أن نذكر أن العلاقات المصرية الإفريقية مرشحة لمزيد من التنسيق والتفاهم عبر الأجندة التي تضعها حاليا قمة العرب وإفريقيا المقرر انعقادها في نوفمبر المقبل عبر بوابة جامعة الدول العربية, وعبر مشاركة فعالة للرئيس مبارك في قمة فرنسا إفريقيا التي تشهدها مدينة نيس الفرنسية اليوم. [email protected]