شيخ الأزهرلعل النظر المتأني في بحث الخلفيات الكامنة وراء الصراعات المذهبية بين المسلمين, يثبت أن لها أسبابا خارجية وداخلية, وأن الأسباب الخارجية أهون شأنا من تلك التي يصنعها المسلمون فيما بينهم عن وعي, أو عن غير وعي. ويجب أن نعترف بأن الرابضين هناك من وراء البحار نجحوا في تحقيق ما نذروا له أنفسهم من خدمة عقائدهم وشعوبهم. ولعلنا لا نبالغ لو استنبطنا في ضوء الواقع الذي نعيش فيه, أن الغرب يمارس علي الإسلام والمسلمين نوعا من التسلط يخدم أهدافه ومطامعه في المنطقة, وما مشروع الشرق الأوسط الجديد بخاف ولا ملتبس علي من يحمل هموم هذه الأمة وآلامها وآمالها, ومعلوم أنه مشروع تجزئة وتفتيت وتقطيع أوصال, وأن رأس الحربة فيه هو إذكاء الفتنة كلما أمكن, وبعثها حيثما وجدت, وكيفما كانت: طائفية أو مذهبية أو عرقية أو دينية, بين المسلمين أنفسهم, والمسلمين وغيرهم من أبناء الأديان الأخري, وإذا كان الاستعمار الغربي قد نجح في القرنين الماضيين في ضرب وحدة الأمة, واستطاع أن يقسمها إلي أقطار ودول, فإنه اليوم يعيد السياسة نفسها, ومازال مبدؤه الاستعماري فرق تسد هو خطته الجهنمية التي تعمل عملها الآن في بلاد العرب والمسلمين تحت مسميات عدة, ومازالت الأمة, للأسف الشديد, تبتلع الطعم نفسه, وما أظنني بحاجة إلي تقديم الحجج والبراهين, فالعراق الجريح وأضرابه لا يتماري اثنان في أنه طعم ابتلعته الأمة بعلمائها قبل مسئوليها, وإذن فهاهنا فتنة تبعثها الحروب المذهبية التي تطل برأسها القبيح في هذه الآونة, وتشعل العنف بين الشيعة والسنة والوهابية والصوفية والسلفية وغيرها, وهي حروب يذكيها صراع موهوم لا مبرر له, ولو أننا استعرضنا أصول الشيعة وأصول أهل السنة في ضوء قواعد الإيمان والإسلام فهل نجد علي مستوي العقل أو النقل مبررا واحدا لهذه الدماء البريئة المظلومة التي سالت أنهارا من الفريقين؟! هل القول بالنص علي إمامة علي كرم الله وجهه, أو القول بعصمة الإمام, أو انحصار الأئمة في عدد معين من آل البيت يخرج من الإسلام؟ أو يرقي إلي أن يكون فيصلا للتفرقة يخرج أو يدخل في الإسلام؟ وهل المذهب الذي يري أن الخلافة شوري بين المسلمين, وأن الأنبياء والمرسلين هم وحدهم المعصومون من الخطأ يبرر محاربة القائلين بهذا المذهب, وذبحهم والتمثيل بأجسادهم؟ هل ذهاب السنة أو الشيعة لزيارة آل البيت والأولياء والصالحين, والتوسل بهم يجعل دماءهم حلالا وقتلهم واجبا علي من ينكر التوسل, وزيارة القبور؟ وهب أن الذي يفعله الصوفي أمر يشوش علي العقيدة؟ أليس الواجب دينا وشرعا علي من ينكر ذلك أن يبذل الجهد في تعليمهم وإرشادهم؟ ولماذا تنفق الملايين في حملات التكفير والتفسيق والتبديع وتقسيم الأمة, وزرع السخائم والأحقاد في القلوب, ولا ينفق درهم واحد في سبيل توعيتها ووحدتها ولم شملها في إطار الأخوة الإسلامية التي حث عليها القرآن الكريم؟ في اعتقادي أن هذا الحوار العنيف الذي نشهده الآن بين أكبر طائفتين من طوائف الأمة الإسلامية, الذي سرعان ما تحول إلي مواجهة دامية محزنة مبعثه في المقام الأول تضخيم الخلافات المذهبية أولا, وتصويرها علي أنها الحق الذي لا مرد له, وأن مخالفتها فسوق وابتداع إن لم يكن كفرا وخروجا من الملة, ولو أن هذه الخلافيات درسها الشيوخ أو المعنيون بها لتلاميذهم دراسة علمية فقهية صحيحة, لا يحثهم علي ذلك إلا وجه الله, ووجه العلم والحق, لكان خيرا لهم وللمسلمين, وإنني لا أزال أذكر كيف كانت دراساتنا في الأزهر منذ نعومة أظفارنا دراسة تقوم علي التعددية والخلاف والرأي والآراء الأخري, وبخاصة في الفقه وفي علم الكلام حيث الاختلافات الحادة بين الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والشيعة والسلف والخلف والصوفية, ولم يحدث أن تحولت هذه الخلافيات يوما إلي مواجهات عنيفة بين الطلاب. ومما يؤسف له أن الحدود الفاصلة بين الكفر والإيمان قد تداخلت كثيرا في أمر هذه الخلافيات, وأصبح من المألوف لدي البعض من أتباع هذا المذهب أو ذاك أن ينفي غيره ويستبيح لنفسه ألا يسلم عليه إذا لقيه في الطريق, وزاد من تفاقم الخطر أن هذه الخلافيات لم تعد مقصورة علي قاعات العلم والدرس كما كانت قبل ذلك, وإنما نزل بها دعاتها ليسوقوها في الشوارع والمساجد والدروس في المدن الجامعية وفي البيوت, ولنتصور مدي خطر الحديث عن هذه الخلافيات بين الدهماء والبسطاء والشباب الثائر المندفع بطبيعته, وقد صاحبت ذلك أشرطة وكتيبات, وفي السنوات القليلة الأخيرة انتقلت هذه المعارك إلي الفضائيات وشاهدنا علي شاشاتها الحروب الجدلية الطاحنة بين السنة والشيعة مرة, والسلفية والصوفية مرة أخري, والوهابية وغيرها مرة ثالثة, واستنكر الناس ما سمعوا ولم يصدقوا أعينهم هم يرون العلماء من الفريقين يتقاذفون بينهم القول بتحريف القرآن الكريم, وتكفير ما سموه القبوريين وغير ذلك من الدعوات التي ما أشك لحظة في أنها تبعث بين الحين والحين لتحقيق أغراض سياسية ولا تجني الأمة من ورائها نفعا ولا فائدة غير المزيد من الانقسام والتشرذم, وقد أعلن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف استنكاره الرسمي لهذا الجدل الدائر علي شاشات الفضائيات. ولقد قارنت بين علاقة السنة والشيعة أيام الإمام شرف الدين الموسوي صاحب المرجعيات, والشيخ سليم البشري, والشيخ شلتوت, وهذه الأيام التي نعيشها الآن, وبدا لي أن دعوة التقريب التي بدأت في مصر وبمباركة الأزهر وشيوخه, وانطلاقا من وسطية الأزهر واعتداله, كانت تصب دائما في مصلحة إخواننا الشيعة, ولا يفيد منها أهل السنة شيئا يذكر في مجال التقريب, وأكتفي في التدليل علي هذه الدعوي بالرجوع إلي المراجعة الرابعة في مراجعات الإمام عبدالحسين الموسوي التي يخاطب فيها شيخ الأزهر آنذاك الشيخ سليم البشري بقوله: نعم يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت, واعتباركم إياه كأحد مذاهبكم, حتي يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية إلي شيعة آل محمد صلي الله عليه وسلم كنظر بعضهم إلي بعض, وبهذا يجتمع شمل المسلمين, وينتظم عقد اجتماعهم.