يشير النظم في رأينا إلي الصنعة; وربما كان أكثر المصطلحات النقدية التراثية اقترابا من مفهوم الشعرية, يرتبط النظم في سياقنا هذا بعملية لها قطبان: الأول الكيفية التي يحول الشاعر أفكاره من خلال اللغة إلي نص شعري, والثاني الكيفية التي يجد القاريء بها معناه الشعري في نص الشاعر. وهي عملية تتصل بمفهوم ألعاب اللغة في اساسها, فهل يصح القول إن النظم هو الذي يجعل النص شعرا! ذلك لأنه يستهدف وضع' المعني الشعري' في داخل بنية ما أسميناه المعني المنطقي للنص المرتبط دائما بعالم المرجع! من الواضح أن هوية العمل الشعري تكمن علي وجه التحديد في أن هناك شيئا ما يكون مقدما' ليفهم', أي أنه يطالبنا بأن نفهم ما يقوله, أو ما' يقصده'. فالشعر يعلن تحديا ينتظر منا التصدي له. ذلك لأن أية قراءة شعرية هي قراءة قرينة استعداد خاص للاندفاع إلي ما وراء المعني المنطقي المباشر للنص, من أجل توليد معان جديدة. وهذا يعني, أن يكون القاريء قادرا علي إعادة نظم أية' شفرة' راسخة في التأويل, سواء كان ذلك علي المستوي النحوي, أو المستوي المعجمي. فالحصول علي المعني الشعري هو فعل ينجزه القاريء دائما, ذلك لأن عملية تكوين المعني الشعري هي انتقاء ما, بين احتمالات متغيرة ومختلفة ترتبط بكل من التأثير والوظيفة'. يحمل تراثنا العربي النقدي اهتماما خاصا بفكرة النظم, ربما كان أشهر هذه التناولات ما ورد في' دلائل الإعجاز' لعبد القاهر الجرجاني, هذا المفكر النقدي الذي أشار إلي عدد من الاستبصارات المفيدة في هذا السياق, يقول الجرجاني:' فههنا عبارة مختصرة وهي أن تقول:( المعني), و(معني المعني), تعني بالمعني المفهوم من ظاهر اللفظ, والذي تصل إليه بغير واسطة, وبمعني المعني, ذلك بأن تعقل من اللفظ معني, ثم يفضي بك ذلك المعني إلي معني آخر', ربما نتماس معه هنا فيما سميناه المعني الشعري. وعلي الرغم من اختلافنا مع عدد من آراء عبد القاهر الجرجاني في مهاده النظري عن النظم, وعلاقة الشعر بالمعني, فإن عددا من مفهوماته علي المستوي الجزئي ملأي باستبصارات مهمة, وصحيحة إلي حد بعيد, لو قرأناها في ضوء ما أنجزته المدارس والتيارات النقدية المعاصرة. خصوصا ما يتعلق بمعني المعني.. يقول الجرجاني:' إذا تغير النظم يتغير المعني' وهذا صحيح لو كان مقصده معلقا بالنتيجة, لا بالنص, أي بالقراءة لا بطريقة الصوغ, فماذا لو قلنا إذا' تغير القاريء, تغير المعني', أو قلنا' إن أي تغير في فهم المنظوم, هو تغير في نظمه', وذلك لأنه بالرغم من صحة ما ذهب إليه الجرجاني من أن' النظم هو وضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو', علي سياق يراعي قوانينه وأصوله, فإن كلامه في هذه الحال سيكون تحصيلا حاصلا, ذلك لو أولنا العبارة علي الظاهر, فالمعني لا يحدده ما هو ظاهر من نحو العبارة فحسب, بل يحدده المتلقي من خلال فعل القراءة- اختيارا ووضعا- أيضا, والافتراض الذي يري أن النص الشعري أيا كان يمكن أن يقرأ بمعني واحد, هو افتراض غير صحيح, لأن النص يخضع دائما_ في الخطاب الأدبي بخاصة- إلي نظم آخر يجريه متلقوه_ جهلا ووعيا- عليه, من هنا تتعدد المعاني التي يمكن أن يطرحها نص ما, بتعدد القراءات, وبالرغم مما قد يبدو في ملفوظ النص من واحدية النظم وسكونه, فإن معناه ليس واحدا, بل يختلف مع كل قراءة, مهما اتسم النص في ظننا بالثبات, ذلك لأن ما نذهب إليه هنا هو أن اختلاف المعني, يعني في الحقيقة اختلاف النظم, الأمر الذي يفتح باب التأويل علي مصراعيه. هذا الفهم هو عين ما انتقده عبد القاهر وهو يصف أناسا' يستطيعون أن ينقلوا الكلام في معناه عن صورة إلي صورة, من غير أن يغيروا من لفظه شيئا, أو أن يحولوا كلمة عن مكانها, إلي مكان آخر,(...) حتي صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر, ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير, وهو علي ذاك الطريق المزلة الذي ورط الناس في الهلكة'! أعلم- في هذا السياق- كما يعلم غيري الإرغامات النفسية- واعية كانت أو غير واعية- التي دفعت الجرجاني إلي هذا الحكم الضيق; بما يحمله من خشية أن يمتد هذا السلوك إلي انفتاح تأويلات غير محدودة بقاعدة علي النص القرآني بخاصة. لكن هذا لا يمنع فهمنا لنصوصه في حدودها, وفي ضوء سياقها التاريخي. إن اختلاف المعني الشعري في نص ما, بين قاريء وآخر, أو بين شاعر وقاريء, هو في حقيقته اختلاف في طريقة النظم, هذا الممتد بين نص الشاعر, وفعل قراءة المتلقي, فعلي المستوي الرياضي: يعبر المعني الشعري الذي ينظمه قاريء ما- بالتعبير العلمي- عن طاقة متاحة من طاقات النص. أما النص في ذاته فله طاقة وضعية كامنة, لا تنضب إلا بانتهاء قرائها, وهي طاقة لا يمكن ان تحصرها القراءات المختلفة مهما تعددت, وهذا ما يشكل علاقة رياضية مفتوحة النتيجة بين النص في ذاته, وقارئه, بحيث يقبل النص دائما أن تتعدد طرائق نظمه بتعدد قرائه, أما النص العقدي أو الأيديولوجي فتبلغ فيه نتيجة هذه المعادلة أعلي معدلاتها اقترابا من الواحد الصحيح, بسبب سيطرة عدد محدود من التأويلات علي هذه النصوص, وذلك علي خلاف النصوص الأدبية بعامة التي لا تنفد طاقاتها المتاحة. لا يوجد في النص معني دون قاريء, وليس هناك شعر دون نظم, ولا تأويل دون فقد وخسارة, لأنه لا يمكن لأي قاريء مهما بلغت قدرته أن يحول أكثر من جزء محدود من طاقة النص الكلية إلي طاقة متاحة, وهذا ما ينطبق علي ما سميناه المعني الشعري هنا دون منازع, إن كسر خط تأويل ما لمعني من المعاني التي يمنحها النص, في أثناء فعل القراءة يشكل دائما بداية طاقة نصية جديدة, تعمل من أجل تأويل آخر; فغالبا ما يقوم القاريء, كما قام الشاعر من قبله بالتخلص من حمولة نصية من أجل سلامة المعني الشعري, والحصول علي تماسك ما لطاقة النص الشعرية الكلية, وذلك بسبب طبيعة عمل اللغة ومفرداتها, فالكلمات تقاوم المعني, ولا يمكن أن يضم تأويل واحد كل التأويلات الشعرية الكامنة في النص, لأن المفردات المشكلة لفضاءات كل سطر شعري في أي نص هي في حقيقتها كائنات ملأي بحيوية استثنائية, وذلك بسبب قدرتها الدائمة علي فتح صمامات تأويلية عديدة. بل إن أبسط شكول النصوص الشعرية تنطوي علي توافق معقد للمعاني الجزئية في النص. لا يحدد الشعر إيقاعه فحسب, بل يؤكد حضوره خفق المعني فيه, هذا المنظوم في العلاقة الممتدة بين قاريء وشاعرعلي جسد النص. النظم الشعري في رأينا عملية بالمعني العلمي للمصطلح, يقوم فيها طرفان; الشاعر والقاريء, بإنجاز النص, ولا تقوم هذه العملية علي أحدهما دون الآخر, ذلك لأن النظم ليس مهمة الشاعر فحسب, ولكنه مهمة القاريء أيضا, وهو في اشتغاله من أجل الفوز بالمعني الشعري يعبر عن محاولة كل من الشاعر والقاريء التحكم في عمل المصادفة.. المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى