من طابع الشعر أنه لا يأتي متحققيا في الواقع علي نحو ما تكون عليه أعمال الفنون البصرية التعبيرية, أو الأنواع الأدبية الأخري مثل المسرح والرواية, من هنا تصدر أهمية الجهد التأويلي الذي يبذله القاريء من أجل الفوز بمتعة المعني الشعري. وهو جهد ضروري نحتاج إليه أكثر في النصوص الشعرية التي تبدو من القراءة الأولي عادية, لا شعر فيها, بسبب نثريتها مثلاي, علي الرغم من أن المعني الشعري المضمر فيها قد يمنحها ما تنتسب به_ دون منازع- إلي الشعر, مثل الأشعار المترجمة من مختلف لغات العالم إلي العربية, ربما كان هذا سببيا من أسباب اهتمامنا بما سميناه المعني الشعري بصفته مشيريا مهميا من مشيرات النوع الشعري, ذلك دون الاكتفاء ببني الإيقاع التقليدية بصفتها مشيريا وحيديا إلي النوع الشعري كما اعتدنا في الدرس النقدي القديم. وأتفق في هذا السياق مع الرأي الذي يري أن' أفعال الإدراك هي مصدر الملامح الشكلية للنص, وليست محصلة طبيعية لوجوده, فليس وجود الصفات الشعرية هو الدافع من وراء ذلك القدر من الاهتمام الذي نوليه القصيدة فحسب, وإنما هذا القدر من الاهتمام الذي يوليه القاريء القصيدة هو الذي قد يسفر عن ظهور صفاتها الشعرية'. كما يذهب إلي ذلك المنظر الأمريكي ستانلي فيش(1938), فالنص أيقونة قصد, وهوية العمل الفني تبقي مأمونة عن طريق تعهدنا بأن نحمل علي عاتقنا مهمة تأويله, وبنائه. ذلك لأن ما نحسبه شعريا نبدأ في النظر إليه بعيون الشعر, أي بعيون تهتم بالمعني الشعري فيه. حيث تعد القراءة نشاطيا إدراكييا يوجه النص, من أجل هذا يمكن أن تحمل عبارة شديدة النثرية, وبادية البساطة في آن, معني شعرييا شديد العمق, يدل مباشرة علي الانتماء النوعي للنص, وإن لم تتوافر فيه خصائصه الشكلية الإيقاعية المعتادة, ذلك لأن المعني المرتبط بالقياس علي عالم المرجع قد يلعب دوريا مهميا هنا في تحديد نوع النص. وعلي الرغم من أن' القياس الشعري لا يوقع تصديقيا, ولكن يوقع تخييلا محركيا للنفس إلي انبساط وانقباض, من خلال محاكاة أمور جميلة, أو قبيحة'. كما يقول' ابن سينا'(980-1037). فإن المعني الشعري غالبيا ما يأتي ملتبسيا, وذلك بسبب سياقه الذي يتباري فيه معنيان علي الأقل; المعني المنطقي الناتيء الذي يطل علينا في وهلة القراءة الأولي للنص, ارتباطيا بعالم المرجع, والمعني الشعري المضمر, فيما يأتي بعد ذلك من تأويل, وهذا ما يجرنا إلي مفهوم القياس الشعري الذي ينبني المعني الشعري عليه. يربط الشريف الجرجاني(1340-1412 م) في كتابه' التعريفات' بين الشعر والقياس قائلاي إنه' قياسي مؤلف من المخيلات, والغرض منه انفعال الناس بالترغيب والتنفير', أما مادة القياسات المختلفة فتتميز بدرجة يقين المعرفة التي تتوافر من خلاله, وهذا ما يربطها بالصدق والكذب. ومن هذه القياسات:' القياس البرهاني, والقياس الجدلي, والقياس الخطابي, والقياس السوفسطائي, فضلا عن القياس الشعري الذي يتكون من مقدمات تكون في ذواتها غير ممكنة, فمقدماته دائميا كاذبة, وتتكون من المقدمات المخيلة'. ولا تكمن المشكلة في أي نص شعري في طبيعة القياس, أو في تعريفه, لكنها تكمن فيما يتضمنه المعني الشعري من قياسات مختلفة ومتعددة في سطوره المختلفة, فلا يمكن تطبيق قياس واحد علي النص الشعري كله, فقد يقبل سطر شعري نوعيا من أنواع القياس, ويرفضه سطر آخر; ينطبق ذلك علي السطر الشعري التخيلي, أي الخارج عن الأولوليات, أو المحسوسات العامة, وهما من أدوات القياس البرهاني; وينطبق أيضيا علي المشهورات, والظنون, ذلك لأن النص الشعري في سياقه الدلالي المتنامي لا يتضمن القياس الشعري فحسب, بل يتضمن أيضيا القياسات البرهانية, والجدلية, والخطابية, والسوفسطائية, بجانب القياسات الشعرية, من هنا تأتي أهمية القياس علي مستوي الخطاب, وليس علي مستوي العبارة فحسب, فلا ضرورة بأية حال من أن يحمل كل سطر شعري قياسيا شعرييا علي مستوي المعني, ولكن يكفي النص أن يكون فيه قياس شعري فاعل أو أكثر, لتتحقق شعريته, أما السؤال فعن قيمة هذا القياس واشتغاله, وليس عن كمه, وعدده. ولا أظنني أعدو الحق إذا قلت إن القياس الشعري, أو المغالطي, في سطر شعري, يأتي بعد سطر شعري قائم علي قياس برهاني, أو جدلي, أو خطابي, أو يسبقه, يمنحه حمولة شعرية خاصة, لما يخلقه تجاور هذه القياسات من مفارقة, حيث يعمل القياس الشعري هنا بصفته تحويلا تأويلييا, أو زاوية رؤية مزيدة ومختلفة, تشد النص كله من سياق ما سميناه المعني المنطقي للنص, إلي واحد من المعاني الشعرية فيه, وهذا ما لا يتم إلا من خلال عملية نظم ممتدة بين نص شاعر, وقرائه علي جسد النص! ونؤكد هنا أهمية المعني المنطقي المباشر المرتبط بعالم المرجع في الحصول علي المعني الشعري, فما أسميه المعني المنطقي المباشر للنص, أو المعني اللاشعري مجازيا, يكون ضرورييا للحصول علي المعني الشعري, ويمثل جزءيا أساسيا فيه, وأقول هنا المعني اللاشعري, ولا أقول العبارة اللاشعرية, لأن أية عبارة في رأينا يمكنها أن تكون شعريا إذا كانت في كتلة نصية شعرية, أو في سياق شعري, ولا أقول أيضيا العبارة النثرية, لأننا نجد الشعر فيما نسميه نثريا, ونجده فيما نسميه بسبب تقاليدنا الشعرية النسبية من وزن وقافية شعريا. من أجل هذا ينبغي أن يكون في داخل كل قارئ شعر, قارئ نثر, الأمر الذي يؤكد صحة ما ذهب إليه العالم الشكلاني الروسي رومان جاكبسون(1896-1982) من أن' كل' تيمة' يكون هدفها اختزال دائرة الوظيفة الشعرية في الشعر, أو حصر الوظيفة الشعرية فيه, لن تؤدي إلي شيء غير تبسيط مخل وخادع'. إن المعني المنطقي المرتبط مباشرة بعالم المرجع, والقائم علي قياس برهاني, أو جدلي هو الخلفية التي يقوم عليها المعني الشعري. فكلما كانت قاعدة القياس أكثر رسوخيا, زادت الطرائق المتاحة لانتهاكها. ولست أري بأسيا من القول إن المعني الشعري ينشأ في حقل تتقاطع فيه مجالات مختلفة لكل منها قياسه المنطقي الخاص, ولكنها قياسات تساعد جميعيا علي إنشائه, فاللا شعرية ولا أقول النثر- هنا حد أساس في الشعرية, حيث يقتضي الحصول علي المعني الشعري قراءة متزامنة لمعنيين علي أقل تقدير, أو أكثر, من المعاني التي يمنحها النص, واحد منها هو ما نسميه' المعني المنطقي' للنص. ربما يأتي نتاج نصي شعري ملآن بهذه القياسات, محلقيا, متعدديا, حفييا بالتباسه, يأخذنا بعيديا عن منطق الواقع حينيا, ويهبط بنا مقتربيا منه أحيانيا, وهذا ما يمنح النص الشعري بخاصة آلاف الممكنات التأويلية التي قد تبعده عما يسمي قصدية منتجه, بحكم اشتغال اللغة, وألعابها, وفي النهاية, مازال زمننا زمن شعر دون منازع, فليس هناك زمن واحد لنوع أدبي واحد, إلا في مقولات نقدية فاسدة, هناك أزمنة متجاورة, لأنواع متجاورة, ويظل الشعر دم الأجناس الأدبية كلها, فهو ما يجدد اللغة, ويمنحها دهشتها, يقول أبو القاسم الشابي' أنت يا شعر فلذةي من فؤادي تتغني, وقطعةي من وجودي'. E-mail:[email protected] المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى