يظهر النص الشعري للقاريء المتمرس بصفته محصلة لدهشة شاعر تتجلي في اللغة, بل إنني لا أعدو الحق لو قلت إن النص الشعري يحتاج من الدهاء, والتخطيط, ما يحتاجه تدبير جريمة. فهو مثل نزوة لا يعرف صاحبها نتائجها, ولكنه يجب أن يدبر لحدوثها جيديا. يعرف الناقد الفرنسي ميشيل ريفاتير(1924-2006) القصيدة بأنها نص' يقول شيئيا ويعني شيئيا آخر'. وهذا ما يؤكده الفيلسوف الألماني جادامر(1900-2002) علي نحو آخر بقوله إن' الشعري يحتفظ دائميا بسمة غير محددة علي نحو خاص, وهي أنه من خلال شمولية اللغة, يقدم الشعر شيئيا يظل مفتوحيا علي جميع أنواع القول التخييلي', فالنص الشعري نوع من التطرف في علاقة الكلمات بأشيائها. أما فعل القراءة فيتيح تأسيس معني متماسك للنص, ذلك لأن المعني الشعري ممارسة وليس معطي, وهذا ما يضع القاريء في بنية النص, هذا القاريء الذي يقوم من خلال الممارسة بإعادة تشكيل النص علي المستوي التأويلي وفق خبراته السابقة, علي مستويي المعني والشكل, وهما مستويان قد يعوض أحدهما الآخر, ذلك لأنه من الممكن أن يكتفي القاريء بحد أدني من العلامات النصية المضمونية أو الشكلية بصفتها مشيرات كافية للدلالة علي نوع المقروء. إن خصوبة أي معني شعري جمالية في طابعها, فهي لا تنشأ من وجود احتمالات متباينة نختار منها, ثم نستبعد بقيتها فحسب, بل تنشأ أيضيا من غياب إطار مرجعي قادر علي أن يقدم معايير حاسمة للمعني الشعري الصحيح, وللمعني الشعري الخطأ. ولا أقصد هنا أن المعني الشعري لا بد من أن يكون ذاتييا صرفيا, فلنحو النص تأثيره الدائم علي المعني, وعلي الرغم مما يتطلبه استيعاب المعني الشعري علي اختلافاته من الذات القارئة من جهد, فإن الوصول إلي اختيارات أخري بديلة لهذا المعني ممكن علي الدوام, وهو معني لا يكتمل في العادة إلا من خلال الإسقاط الدائم لفائض نصي ما, ولحمولة معان نحوية زائدة علي سياق تأويلي بعينه. وقد قصدت من تحليلي النقدي في مقالات سابقة لقصائد من شعر الواكا والهايكو اليابانيين إيضاح الكيفية التي يمكن أن تحمل بها عبارة شديدة النثرية, وبادية البساطة في آن, معني شعرييا شديد العمق, وطازجيا, يمكنه أن يدل علي انتماء النص المقروء إلي الشعر, وهذا ما يلزم المتلقي بأن يكون ذا أهلية تأويلية, تمكنه من أن يظفر' بمعناه الشعري' الخاص في النص,' فما يوجد هناك في العمل الفني أكثر من مجرد المعني الذي اعتادته خبرتنا[ بما يسمي الواقع]. هكذا يقتضي الحصول علي المعني الشعري قراءة متزامنة لمعنيين أو أكثر من معاني النص الممكنة, واحد منها هو ما نسميه' المعني المنطقي', وآخر يرتبط به, مبتعديا عن منطق الواقع حينيا, ومقتربيا إليه أحيانيا.. إن الشعر- علي وجه الدقة- شيء' مصنوع'. وقصد الشاعر لإنتاج قصيدة يشمل في العادة نية لإنتاج نوع مخصص من بنية لفظية, وما يرتبط بها من معان ممكنة, بناءي علي ذلك يقرر الشاعر علي نحو متواصل أن جزءيا معينيا من مادته اللغوية تخص بنيته الشعرية دون غيرها, سواء استطاع تعليلها أم لم يستطع, وأن ما يحذفه في التنقيح لا يخص نصه الشعري, حتي ولو كان في حد ذاته جيديا في سياق آخر', كما يذهب إلي ذلك الناقد الكندي نورثرب فراي(1912-1991), الأمر الذي يؤكد أهمية مفهوم النظم, وهو المفهوم الذي نعالجه في هذا المقال. وأذهب في هذا السياق إلي أن القراءة الشعرية- في حقيقتها- شكل من شكول النظم. والنظم هو:' التأليف, نظمه, ينظمه, نظميا, ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك, والتنظيم مثله, ومنه نظمت الشعر, ونظمته, ونظم الأمر علي المثل,[ كما تفيد لفظة النظم معني المحاكاة علي مثال], وكل شيء قرنته بآخر, أو ضممت بعضه إلي بعض فقد نظمته,(...) والنظم ما نظمته من لؤلؤ وخرز وغيرهما,(...) والنظام الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ, وكل خيط ينظم به لؤلؤ أو غيره فهو نظامي'. يقول عبد القاهر الجرجاني( توفي سنة471 ه)' وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك, لأنك تقتفي في نظمه آثار المعاني, وترتبها علي حسب ترتيب المعاني في النفس, فهو إذن نظم, يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض, وليس هو( النظم) الذي معناه ضم الشيء إلي الشيء كيف جاء واتفق', وفي هذا ما يشير إلي أهمية الوعي والقصد في النص, ثم يعرف النظم قائلا هو' تعليق الكلم بعضها ببعضي, وجعل بعضها بسببي من بعض, كما يقول' إن هذا النظم الذي يتواصفه البلغاء, وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله, صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة', وفي هذا ما يشير إلي فكرة الصناعة, بما تطرحه من أهمية' الشعرية' أو التأليف, أو ما يسمي ب'البويطيقا', في تشكيل النص, أما السؤال المهم الذي تستبطنه عبارات الجرجاني, دون الدخول في تحليل لا تحتمله مساحة المقال فهو ما الذي يسبق الآخر في صنعة النظم هذه, التشكيل أم التأويل؟ علي جانب مقابل, اكتسبت كلمة النظم دلالة سلبية في تاريخنا الأدبي, حين جرفت قوتها أفكارنا إلي معني واحد للنظم يشير إلي الكتابات العروضية التقليدية في أضعف تجلياتها, الكتابات الشعرية المعادة المكرورة المنتشرة الآن علي نحو هائل في محافلنا الأدبية, وهي كتابات لا تنتسب إلي الشعر إلا ارتباطيا بمفهومه التقليدي الضيق; الالتزام بالإيقاع والقافية, هكذا أصبح لكلمة' النظم' تاريخ تداولي حديث أضفي عليها صفات سلبية عديدة, تصل إلي ما يفيد وصف المنعوت بها بالتصنع, و نفيه من الحقل الشعري, وذلك من خلال القالب المتداول:' هذا نظامي, وليس بشاعر', بل تحولت كلمة النظم علي أفواه الشعراء والنقاد إلي ما يشير إلي من لا يتقن الشعر بقدر إتقانه الشكل, هذا برغم ما تحمله كلمة' النظم' في حقلها الدلالي من ثراء يعبر في الشعر عن صناعته بعامة.. النظم في رأيي الخاص هو أساس العملية الشعرية كلها, هو صناعة الشعري من خلال اللغة. النظم خلق إبداعي يسبقه قصد, هذا ما يفعله الشاعر, وما يقيمه المتلقي, أما الإدراك الجمالي للمعني الشعري فيتوقف علي القاريء مثل توقفه علي النص, فقراءة النص الأدبي لا تسير في اتجاه واحد, ذلك لأن المعني الشعري هو ما ينظمه متلقي النص في أثناء الممارسة أيضيا, بل إنني لا أعدو الحق لو قلت إن هناك نصوصيا شعرية عديدة تحتاج إلي جهدي تأويلي خاص لاصطياد المعني الشعري فيها, وإلا استقبلها المتلقي بصفتها نصوصيا خالية من الشعر, مثل عدد كبير من نصوص قصيدة النثر العربية المعاصرة, وهي نصوص لا تقدم إشارة مباشرة إلي انتمائها النوعي إلا من خلال شكل كتابتها, ومعناها الشعري الخافق فيها, وليس من شك في أن الجهد المبذول من القاريء في نظم هذه النصوص بصفتها شعريا يتطلب زيادة في الطاقة التي تتغيا التخلص مما يسمي التأويلات اللاشعرية المعتمدة علي ما نسميه المعني المنطقي المباشر للنص, إن النظم هو صناعة المعني الشعري الممتد بين منتجي شاعر, ومنتجي قاريء, علي جسد النص.. المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى