أحدثكم اليوم عن كتاب صدر, لا أدري كيف أصفه, ولا أدري لأي فن أنسبه, هل هو شعر أم نثر؟ وهل هو مجموعة من القصص, أم مجموعة من القصائد, أم هو الفنان معا, شعر في النثر, ونثر في الشعر, وقصائد قصصية, وقصص شعرية؟ وأنا أطرح السؤال وأرجو أن تشاركوني في الإجابة عنه, لأنكم قرأتم هذا الكتاب حين نشره صاحبه الشاعر فاروق شوشة منجما في زاويته في لأهرام تحت عنوان وجوه في الذاكرة. صحيح أنه اكتفي بهذا العنوان فلم يقل عن النصوص التي نشرها تحته إنها قصص أو قصائد. لكننا نستطيع أن نجد فيها الفنين معا, الشعر والنثر اللذين لابد أن يجتمعا في كل نص أدبي, لأن مادتهما واحدة وهي اللغة التي لا يخلو فيها الشعر من بعض العناصر النثرية كالإشارة والتقرير, ولا يخلو فيها النثر من بعض العناصر الشعرية كالاستعارات والصور. لكننا نميز الشعر عن النثر بغلبة العناصر الشعرية في النص الذي نسميه قصيدة حين نجده مستوفيا الشروط التي يجب أن تتحقق في هذا الشكل الأدبي. والعكس صحيح, فنحن نميز النثر عن الشعر حين نري أن العناصر النثرية هي الغالبة. لكن فاروق شوشة, يحيرنا بنصوصه هذه التي يكاد فيها الشعر أن يكون معادلا للنثر, ونقرأ فيها القصيدة, فنجدها قصة, ونقرأ القصة فنجدها قصيدة. إنه في هذه النصوص يتذكر وجوها, ويصور مشاهد, ويقص علينا سيرا يعرف أبطالها ويرافقهم في حياتهم المنظورة التي يعيشونها في الواقع وحياتهم المستورة التي يعيشونها مع أنفسهم, يفكرون, ويحلمون فيصرحون حينا ويكتمون أحيانا. وهو في هذه القصص يستخدم لغة قريبة من لغة النثر تتميز بالبساطة والوضوح, وتتسع للتقرير والإشارة إلي الأشخاص والأماكن والحوادث التي نعرفها, أو نعرف بعضها علي الأقل, لأن فاروق شوشة يحاول أن يكون أمينا فيما يقص علينا, وفيا لذكرياته, يسمي الناس الذين يعرفهم, ونعرفهم معه, كما نجد مثلا في حديثه عن الرحبانية الثلاثة منصور وعاصي وفيروز. فإذا استغني عن التسمية بالإشارة عرفنا كذلك أنه هنا يتحدث عن الشاعر طاهر أبو فاشا, وهنا عن إبراهيم منصور. فإن لم نكن نعرف الشخص فنحن نعرف النموذج الذي عبر حياتنا كما عبر حياة فاروق شوشة, في الطفولة أو في الكهولة, في القرية أو في المدينة, فأثار في نفوسنا هذه العواطف وزودنا بهذه الذكريات. بنت الجيران التي أيقظت فينا مراهقتنا الأولي تلك الصبية قرب سن تكور النهدين/ قرب تأرجح الردفين/ قرب تشكل الجسد الصغير/ وصنعة الخراط يبدع في تشكلها فتاة ساحرة. أو تلك الزوجة العابثة التي لم تعد تري بأسا في موعد يتاح يكسر الملال/ أو نزوة تغير المذاق بعد طول عشرة منضبطة/ قد سئمت من طعمها الحلال. أو ذلك الرجل الكذاب المنافق يتخفي تحت منظارين زيف ورياء/ ويلاقي الناس بالبشر وبالترحاب والصدر الحنون/ فعل من يملك بعضا من دهاء/ فيسيل الكذب الأسود من بين ثنايا الكلمات/ وهو يعطي الناس من حوليه أحلاما ويسقيهم وعودا. ومن الطبيعي أن تتسع لغة فاروق شوشة في هذه النصوص للمفردات والعبارات التي نستخدمها في لغة الحياة اليومية حين نتحدث مثلا عمن يدفع الحساب في المطعم أو المقهي, أو عن المشوار بالمعني الدارج أي الطريق الذي نقطعه لنقضي حاجة من حاجاتنا, أو حين نعبر عن الكثير الشائع فنقول إنه أكثر من الهم علي القلب, إلي غير ذلك مما يستحق دراسة مطولة نراجع فيها تجاربنا في تطعيم الفصحي بهذه اللغة الدارجة كما نراها في نصوص فاروق شوشة هذه, وفي كتابات يحيي حقي, وحسين فوزي وغيرهم. *** لكن لغة فاروق شوشة في هذه النصوص ليست نثرا خالصا, وإنما هي كما قلت من قبل نثر في شعر, أو شعر في نثر. ليست تقريرا وسردا فقط, ولكنها تصوير وتخييل أيضا, لأنها حركة دائبة بين الخارج والداخل, وتنقل مستمر بين العالم الواقعي الذي نعرفه ونصفه ونشير إليه والعالم الذي نتخيله ونحلم به ولا نستطيع التعبير عنه إلا بلغة الشعر. وكيف نستطيع التعبير عما كان يعترينا ونحن صبية مراهقون نتلقي نداءات الأجساد المشتعلة بما لا تفصح عنه إلا العيون؟ إننا في هذا المقام لا نملك إلا الشعر فنقول كما قال فاروق شوشة كانت بواكير الحرائق في دمي اشتعلت/ وشيء مثل ومض البرق منهمرا يسيل علي الورق/ بدأت عذاباتي مع الشعر الذي سيزيد من جمر الحريق. وفاروق شوشة هنا يتحدث عن نفسه, أو عن حكايته مع فتاة الشرفة البيضاء, لأنه في مقام التذكر. فالوجوه التي يستدعيها تذكره بوجهه. والنص الذي يتحدث فيه عن غيره يتحدث فيه عن نفسه. ومن هنا هذا المزج الخلاق بين السرد والغناء, بين ضمير الغائب وضمير المتكلم, أو بين القصة والقصيدة. ليس معني هذا أن النصيبين كانا دائما متعادلين. فالقصة في بعض النصوص تغلب, وقد تبلغ حد التسجيل والنقل عن الواقع دون انفعال. فالكاتب هنا يرسم مشهدا, ويضع نفسه في موضع المراقب الذي يطلعنا علي ما يحدث ويضحكنا أحيانا علي ما يراه. والقصيدة تغلب في نصوص أخري. وقد تصبح غناء خالصا لا ينقصه عنصر واحد من عناصر الغناء. ويظل السؤال مطروحا حول الشكل الذي تنتمي له هذه النصوص. ونظل في انتظار الجواب.