واحدة من قضايا كثيرة لا يمكن حصرها أو ملاحقتها بسهولة في مؤتمرات التنمية المستدامة المزدحمة في جدول اعمالها, هي قضية الصراع علي الأرض الزراعية في العالم بحثا عن تأمين مستقبل الغذاء. وذلك الغزل الرفيع الدائر بين الدول التي تملك الأموال ولا تملك الأرض الخصبة من جانب والدول التي لا تملك المال ولكن لديها ما هو أثمن ألا وهو الأرض الخصبة من جانب اخر. وعقدت في مقر الأممالمتحدة في نيويورك اجتماعات لجنة التنمية المستدامة التي تمهد للقمة العالمية في2012, وطرحت مناقشات وأوراقا حول كيفية الخروج من فخ الصراع علي الموارد الطبيعية في الإقليم الواحد وطرق التعامل الناضج معها ومنها بالقطع ما يتصل بالنزاع حول حصص المياه الذي يعود بنسبة كبيرة إلي السباق العالمي علي الارض الخصبة في منطقة حوض النيل وإغراء الدول المشاركة في الحوض.. فما هي الأبعاد الجديدة في القصة التي أطلت برأسها من حيث لا نحتسب أخيرا.. تشير دراسة للمعهد الدولي للتنمية المستدامة تحت عنوان مشتروات الأراضي الأجنبية من أجل الزراعة: ما هو تأثيرها علي التنمية المستدامة إلي أن الحكومات والمستثمرين يسارعون للاستثمار في المزارع خارج أقطارهم سواء بالشراء أو التأجير طويل المدة في مناطق تملك الموارد المائية والارض الخصبة وعلي رأسها إفريقيا وجنوب ووسط اسيا وروسيا وأمريكا اللاتينية واستراليا وأوكرانيا. وعلي نحو متزايد يقوم القطاع الخاص في أمريكا واليابان والصين وكوريا الجنوبية وأوروبا بالطواف حول العالم بحثا عن الأرض الخصبة لإنتاح المحاصيل الغذائية والوقود الحيوي ودخلت البنوك الاستثمارية وصناديق المخاطر علي الخط بتوفير تمويل العمليات في مناطق سلال الغذاء. فدول الخليج علي سبيل المثال تبحث عن توفير الغذاء من الدول القريبة لها جغرافيا وحضاريا, والمستثمرون الآسيويون يركزون علي القارة السمراء وقارتهم للحصول علي حاصلات زراعية وعلف الماشية ومحاصيل توليد الوقود الحيوي. وتقول وحدة التنمية المستدامة بالمنظمة العالمية إن الظاهرة ليست وليدة تماما وتعود إلي عصور الاستعمار الأوروبي ولكن التحول في نقل الإهتمام من الزراعة المحلية إلي مزارع المسافات الطويلة علي نطاق كبير وفي تحول المياه والارض الخصبة إلي سلع ولم يعد الأمر يقتصر علي المحاصيل فقط. ومنذ عام2008 تتزايد الوتيرة عالميا خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة40% وتقول دراسة الأممالمتحدة ان التقديرات الدولية تشير إلي استحواز الاستثمار الأجنبي علي أكثر من مليون فدان في أثيوبيا وغانا والسودان ومدغشقر ومالي في المدة ما بين عامي2004 و2009 وهي ثلاثة اضعاف الأرض الصالحة للزراعة في النرويج. ويتضمن الرقم السابق مساحة111 ألف فدان تقريبا لمشروع الوقود الحيوي في مدغشقر و37 ألف فدان لمحاصيل تربية الماشية قي أثيوبيا. وتتراوح عقود الانتفاع ما بين50-99 عاما وتصل المساحات المخصصة للشركة الواحدة إلي10 آلاف هكتار( الهكتار=2.471 فدان). وتضخ اليوم مليارات الدولارات لإنشاءات البنية التحتية التي من شأنها ربط الأراضي الزراعية في أفريقيا بالأسواق العالمية. وللحصول علي فكرة عن مدي وحجم ما يحدث يكفي أن نعرف حجم مزرعة زيت النخيل الضخمة المزمع إقامتها في دولة ليبيريا من جانب الشركات الأكبر في زيوت النخيل عالميا أو المشروع المشترك بين اليابان والبرازيل لتحويل مساحات شاسعة في موزمبيق لزراعات الصويا. ومن ثم ربما لا يوجد مكان لصغار المزارعين في هذه الرؤية الجديدة. ومثل القوي الاستعمارية التي جاءت من قبل تحتاج الموجة الجديدة من الغزاة إلي بنية قانونية وإدارية لتبرير وتسهيل الاستيلاء علي هذه الأراضي. وتقول منظمة جرين الإسبانية المتخصصة إنه لأكثر من عقد من الزمن يلعب البنك الدولي والوكالة الأمريكية لتنمية الدولية وعدد كبير من الوكالات الدولية الأخري والجهات المانحة الأجنبية أدوارا مهمة لإرساء أسس الغزو الجديد وإن كانت هناك اختلافات دقيقة في مناهجها بينما تلتقي مختلف الوكالات حول نفس الهدف المتمثل في خلق أسواق تجارية للأراضي علي أساس سندات الملكية الخاصة في المناطق المستهدفة في أفريقيا من قبل المستثمرين الأجانب. كما تجوب فرق من الاستشاريين أنحاء القارة لإعادة كتابة القوانين المحلية وإعداد الخرائط المساحية وأنظمة الأقمار الصناعية لتمهيد الطريق أمام المستثمرين الأجانب للحصول علي الأراضي الزراعية في أفريقيا. وتشير تقارير إلي أن رئيس وزراء اثيوبيا ميليس زيناوي يسعي بقوة للحصول علي استثمارات الشرق الأوسط واصفا نفسه في تصريحات صحفية بأنه حريص للغاية علي جذب المزيد من صفقات الأراضي. وقد حصلت شركة بريطانية علي ثلاثة آلاف هكتار في اثيوبيا لزراعة الجاتروفا وهو نبات ينتج بذورا غير صالحة للأكل ولكنه يستخدم في معالجة وانتاج وقود الديزل الحيوي وذلك في أعقاب عقد مماثل مع شركة في ألمانيا من خلال شركة تابعة محلية حصلت بموجبه علي8 الاف هكتار في مقاطعة أوروميا لزراعة بذور الخروع. كما حصلت شركة بريطانية للوقود الحيوي علي عقود لزراعة الجاتروفا في سوازيلاند وزامبيا وكذلك مساحات في دولة مدغشقر. ويشير خبراء دوليون إلي أن زراعة المحاصيل من أجل الوقود الحيوي مسألة مثيرة للجدل حيث يمكن أن تؤدي إلي تلف التربة الخصبة أو الإضرار بالبيئة حيث يشير الخبراء إلي أن نبات الجاتروفا يشتمل علي مكونات شديدة السمية للناس والحيوانات. وتؤكد الاستقصاءات الأخيرة إن الدوافع وراء هذه الاستثمارات في الأراضي الأفريقية واضحة بما فيه الكفاية حيث توفر الفرص المتاحة للاستثمار إمكانات تجارية كبيرة خاصة بعد الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية في العامين الماضيين وهو ما دق ناقوس الخطر في الدول الغنية المستوردة للغذاء. علي سبيل المثال.. أصبحت لدول عديدة ومنها دول الخليج العربي الغنية مصلحة في شراء وتأجير أراضي زراعية في السودان. فتقوم أبوظبي بمشروع لتطوير الأراضي الزراعية بالسودان لضمان حصول الإمارات علي الذرة والقمح والبطاطس والفاصوليا. كما توفر المساحات المزروعة أيضا البرسيم لتغذية وتربية المواشي. ويبلغ عدد سكان الإمارات نحو أربعة ملايين نسمة لكن1% فقط من أراضيها صالحة للزراعة. وتقول المصادر إن عقد إيجار الأراضي يصل الي35 ألف فدان في مقابل نقل التكنولوجيا والبنية الأساسية للري. وحصلت شركات إماراتية علي قرابة200 ألف فدان في باكستان كما قامت الحكومة القطرية بتأسيس مشروع مشترك مع الحكومة السودانية لانتاج القمح والذرة والبذور الزيتية. وتستورد دول الخليج في المتوسط60% من الواردات الغذائية. ويري خبراء الأممالمتحدة أن العواصم الخليجية تعتقد انه يمكنها ان تخفض أسعار المواد الغذائية بنسبة25% من طريق التحكم في العرض. ما هي الفوائد التي تعود علي البلدان المضيفة الغرض الرئيسي من هذه الاستثمارات هو إنتاج الغذاء للبلد المستثمر وليس البلد المضيف. بيد أن هذا لا ينفي وجود فوائد للبلد المضيف. وهناك جانب آخر يتمثل في أن استثمارات الأراضي الأفريقية تثير الجدل لأسباب أخري. ففي نيجيريا يرتاب المعترضون مما يسمونه الاستعمار الجديد الذي يتحالف مع العناصر الفاسدة حيث يقولون أن المزارعين المحليين في السودان تعرضوا للتشريد لافساح الطريق امام المستثمرين الأجانب. ويقول المعارضون إن القوي الخارجية كثيرا ما سعت للاستفادة من موارد أفريقيا الوفيرة فضلا عن التخوف من تكرار المجاعات في بلدان مثل أثيوبيا والسودان في ظل صراع الموارد الحالي. وتقوم السودان بإستيراد مليون طن من القمح سنويا ويعتمد اقليم دارفور علي سبيل المثال علي المعونات الغذائية الخارجية. ولكن يقول خبراء هذا لا يعني أن الاستثمار سيكون دائما علي حساب الدولة المضيفة. ووفقا لأرقام منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة فإن7% فقط من الأراضي صالحة للزراعة المروية( في جنوب الصحراء الكبري تبلغ النسبة3.7% مقارنة ب42% من الأراضي صالحة للزراعة في آسيا. وأمام إغراء التدفقات الأجنبية قد توفر تلك الاستثمارات الأموال اللازمة لتحسين هذا الوضع وتقديم بنية تحتية أفضل بما في ذلك خفض تكاليف النقل المرتفعة التي تعوق القدرة التنافسية للصادرات الافريقية. كما أن قدرة توليد الطاقة للفرد الواحد في أفريقيا هي أقل من نصف النسبة في آسيا أو أمريكا اللاتينية. ثم إن هناك تأثيرا للاستثمار الاجنبي في الأراضي علي السكان المحليين فنحو70% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبري يعملون في الزراعة(30% من ناتجها المحلي الإجمالي). ويمكن الاستثمار الأجنبي العمالة الإفريقية من الانتقال من زراعة الكفاف إلي الأنشطة الاقتصادية الأكثر إنتاجية. وتقول المقارنات الدولية أن الوقت اللازم لإنتاج كيلوم جرام واحد من الحبوب في السويد يبلغ5 دقائق وفي الهند37 دقيقة وفي جمهورية أفريقيا الوسطي6 ساعات كاملة. وبالإضافة إلي ذلك العمال الزراعيون الأفارقة بصفة عامة مازالوا خاملين مدة أربعة اشهر في العام وربما يوفر الاستثمار الأجنبي فرصة لتحسين الدخول. السباق العالمي علي الأرض الخصبة والموارد المائية في بدايته.. وتحول الأرض والمياه إلي سلع أمر خطير يحتاج إلي تدابير أبعد من مجرد التمسك بالمواثيق والمعاهدات التي تحتاج إلي ما يحميها في صراع الموارد.. صراع القرن الحادي والعشرين!