قد أتفق مع الرأي القائل بعد إقحام أطراف خارجية وبالأخص اسرائيل في العبث بالعلاقات بين دول حوض النيل. لكني اتفق أيضا مع القول إن اسرائيل لها استراتيجية أمن قومي ومصالح حيوية. تمتد مساحة عملها إلي افريقيا. هذه الاستراتيجية ليست منفصلة عن السياسة التي عرفت في أواخر الخمسينات باسم نظرية محيط الدائرةPeripherytheory والتي وضعها ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء لاسرائيل. وتعني القفز علي إطار الدائرة المحيطة باسرائيل, والتي تضم الدول العربية المشتبكة في صراع معها, إلي الدول الواقعة في محيطها. وهي دول إسلامية يفترض بالضرورة أن تكون رصيد قوة للعرب. وإذا وصلت اسرائيل إليها وأقامت معها علاقات تعاون واسعة النطاق, لأمكنها ألا تجعل هذا الرصيد من نصيب العرب. وهو ما نجحت فيه اسرائيل بعلاقات مبكرة عسكرية ومخابراتية واقتصادية مع ايران وتركيا. والتشابه قريب بين تطبيقات هذه النظرية وبين التقرير المقدم في سبتمبر2008 من آفي ديختر وزير الأمن الاسرائيلي والذي يتحدث عن الساحات المحيطة بإسرائيل, والتي تمتد إلي افريقيا. ولو رجعنا إلي نظرية بن جوريون نجد أن أبرز مراحلها اللاحقة, طبقت في أوائل التسعينيات, مع دول آسيا الوسطي الاسلامية. فعقب استقلالها عن الاتحاد السوفيتي, توجهت مباشرة إلي الدول العربية تطلب أن يكون لها في هذه البلاد وجود ثقافي, بحكم احتياجها لاحياء الوعي بالاسلام, ويتشعب الي مجالات متعددة. لكنها لم تلق استجابة, وعلي الفور تقدمت اسرائيل بمشاريع وخطط جاهزة, تملأ به فراغا لم يتقدم العرب لملئه. وأرسلت خبراء ومسئولين, ساعدوا في مشروعات للزراعة والري والبيئة والصحة, وغيرها, حتي أصبحت هناك نحو30 جمعية صداقة اسرائيلية إسلامية, خطوط طيران مباشر بين بعض عواصمها وبين تل أبيب. وبالمثل جري الوصول والوجود في الساحة الافريقية الخالية من وجود عربي وفق استراتيجية تعرف ما الذي هناك من فرص وتحديات. وبدأت اسرائيل علاقاتها بتقديم معونات, ومساعدات مالية, ومبيعات للسلاح, وإيفاد ضباط للتدريب العسكري, ثم بعد ذلك مقترحات لمشروعات اقتصادية مشتركة بعضها ركز علي اقتصاديات المياه لدول حوض النيل, وإقامة سدود علي النيل. كان ذلك في إطار استراتيجيتها الكبري, يتحرك في اتجاهين: الأول أن تخلق اسرائيل لنفسها مواقع تأثير في عمق الأمن القومي المصري, وحيث إن السلام لا يمنع من التنافس, والسعي من الأطراف لتعزيز مواقعها في مواجهة بعضها. والثاني يرتبط بأفكار اسرائيلية معروفة عن توسيع شبكة روابطها الإقليمية. التي تبدأ بعلاقات تبادلية مع دول عربية ليست لها معها معاهدات سلام, ثم توسيع دائرة هذه العلاقات الي محيط الدائرة, وعندما يأتي يوم يتفق فيه علي ترتيبات سلام شامل, يمكن لاسرائيل عندئذ, المطالبة بأن تكون جزءا من ترتيبات إقليمية أعم وأشمل, لاتتوقف عند حد التطبيع الاقتصادي, بل تشمل أيضا مطالب لها في المياه, وهذا الهدف كامن وراء الدعوة التي صرنا نسمعها في السنوات القليلة الماضية, عن إدخال اسرائيل ضمن نظام اقليمي أمني واقتصادي للمنطقة مع الدول العربية. ونظرة اسرائيل إلي مياه النيل ليست جديدة, فهي محل دراسات متصلة, من بينها دراسات أعدت خلال الفترة من1964 1976, ومن جانب وكالة التخطيط الاسرائيلي للمياه. ومن بينها دراسة في عام1974, تتحدث عن جدوي نقل مياه النيل إلي غزة, ومنها بعد ذلك إلي اسرائيل. وتكرر نفس المعني في كتاب الصراع علي المياه, الصادر عام1989, للدكتور إيليشا كيلي رئيس هذه الوكالة, ثم في ورقة عمل عام1992 عنوانها خيارات حل مشكلة المياه الفلسطينية في إطار سلام إقليمي. وهذه الفكرة طرحها بشكل محدد شيمون بيريز في كتابه الصادر عام1993 بعنوان الشرق الأوسط الجديد, والذي ركز فيه علي احتياج إسرائيل لزيادة سريعة في مواردها المائية. وقال بالتحديد: ان أفضل مصادر المياه موجودة عادة خارج حدود الدول التي هي في أشد الحاجة إليها!. وذكرت الدراسات التي تناولت هذا التوجه أن بيريز كان يقصد مشروعات لأنابيب تحمل مياه النيل إلي اسرائيل. مرة أخري لا أريد أن أقول إن اسرائيل هي التي خلقت الجدل الذي دار حول الاتفاقية بين دول حوض النيل, لكن ذلك لايمنعها من استغلال الفرص التي تتاح لها, إذا ما رصدت فراغا تستطيع هي أن تقتحم ساحته. ولا سبيل إلا بعودة مصر إلي تعزيز وجودها الفعلي الفعال في إفريقيا, حسب خطة تنشط سياسيا, واقتصاديا, واجتماعيا, وثقافيا. فمصر هي جزء من إفريقيا. ووجودها في القارة طبيعي ومنطقي. كما أن افريقيا عمق استراتيجي لمصر, التي لها فيها رصيد تاريخي مازال حاضرا في ذاكرة قادتها وشعوبها. ولايمكن أن يتحقق ذلك بخطوات مجزأة, بل من خلال استراتيجية إفريقية شاملة ومدروسة وعاجلة.