في البلاغ الذي قدمه المحامون التسعة للنائب العام ضد كتاب ألف ليلة وليلة وضد المسئولين عن نشره في هيئة قصور الثقافة, ما الذي يعرفه هؤلاء السادة الأفاضل عن هذا الكتاب؟ وكيف يتحدثون عنه؟ إن لهجتهم في الحديث عن الكتاب لا تدل علي أنهم قرأوه, فإذا كان أحدهم قد قرأ منه شيئا فهو لم يفهمه, ولم يعرف مكانه في الثقافة العربية والثقافة العالمية, وهو بالنسبة للذين قدموا البلاغ لا يزيد عن أن يكون مؤلفا من جزءين, ويسمي ألف ليلة وليلة, كما قالوا عنه في بلاغهم! ونحن نعرف, والعالم كله يعرف ما عدا هؤلاء أن ألف ليلة وليلة ليس مجرد مؤلف من جزءين, وانما هو مصدر أساسي لفهم الحضارة العربية والكشف عن جوانب فيها لا يكشف عنها أي مصدر آخر, وذلك لأنه يقدم لنا حياة السواد الأعظم من الرجال والنساء الذين عاشوا في مدن العالم الإسلامي بعيدا عن الثقافة الرسمية التي انحازت في معظم الأحوال للسلطة وأهلها وطلابها وفقهائها وشعرائها, وانصرفت عن عامة الناس الذين صنعوا لأنفسهم لغة خاصة بهم وثقافة غير الثقافة الرسمية تتمثل في الملاحم والأزجال والسير والقصص التي يطلق فيها المؤلف المجهول لنفسه العنان وهو يسرد الوقائع, ويصف العجائب والغرائب, مستخدما في السرد والحوار لغة شخصياته التي لا نستطيع أن نميز فيها بين مؤلف القصة وبطلها, أو بين راويها وجمهورها الذي يستمع إليها, وتلك هي ميزة الأدب الشعبي الذي يشارك الجميع في ابداعه وتلقيه, فهو من الشعب وإليه, ولهذا يري الشعب نفسه فيه, وتحفظه الأجيال للأجيال, ويتصل الحاضر فيه بالماضي. ومن المؤكد أن الأدب الشعبي هو الأصل في آداب الدنيا كلها, لأن اللغة ملك المتحدثين بها جميعا, ولأن الأدب حاجة مشتركة وليس حاجة فردية, ولأن كل نشاط إنساني يبدأ نشاطا جماعيا ثم يتحول الي مهنة وتخصص, هكذا كان كتاب الموتي تعبيرا عن كل المصريين وتجسيدا لعقيدتهم وعبقريتهم, وكان الشعر الجاهلي فولكلورا ينسب للعرب جميعا قبل أن ينسب لأمرئ القيس وطرفة بن العبد, وكانت الإلياذة والأوديسة قصصا شعبية يتداولها اليونانيون القدماء قبل أن ينشدها هوميروس فتنسب له, والذي يقال عن هذه الآثار الخالدة يقال عن ألف ليلة وليلة التي لم يؤلفها مؤلف واحد أو أمة واحدة, بل شاركت في تأليفها أمم الشرق جميعا, الفرس, والعرب, والهنود, والمصريون, والعراقيون, فإذا كان لابد من محاكمة هذا الكتاب فأمام محكمة دولية! وألف ليلة وليلة قصة تبدأ ولا تنتهي, لأنها ليست قصة رجل واحد أو رجال معدودين, وانما هي قصة البشر علي اختلاف أجناسهم وطبقاتهم رجال ونساء, وملوك ورعاك, وتجار وصناع, وعرب وعجم, ولصوص وبحارة, وفقهاء وشعراء, وإنس وجن, وسادة وعبيد, لكن هؤلاء جميعا يدينون بوجودهم لامرأة تمثلت فيها الحياة كلها هي شهرزاد التي تتحدث عن هؤلاء الأبطال وتروي قصصهم للملك شهريار, فنستمع إليها نحن أيضا, لكن من وراء ستار. وقد بدأت القصة حين اكتشف شهريار أن زوجته الأولي تخونه مع عبد من عبيد القصر فقتلهما, ثم قرر أن يتزوج كل ليلة فتاة عذراء يستمتع بجسدها ثم يقتلها قبل طلوع النهار, وهكذا أصبحت كل فتاة في المدينة مهددة بهذا المصير المخيف, وفشل الوزير في الوصول الي ضحايا أخريات فقررت ابنته شهرزاد أن تخرج والدها من مأزقه, وأن تفدي بنفسها بنات جنسها فتزف الي شهريار, لكنها نوت أن تجرب معه حيلة ربما أنجتها من مصيرها المنتظر, وذلك بأن تقص علي الملك كل ليلة قصة عجيبة لا تكملها, بل تتوقف قبل ختامها عند موقف مثير تؤجل الحديث فيه الي الليلة التالية التي كان شهريار ينتظرها ليعرف كيف انتهت القصة العجيبة, وهكذا مرت الليالي الألف وليلة أخري بعدها دون أن تنفد قصص شهرزاد التي توالدت من قصتها هي مع شهريار, كما توالدت من قصص أبطالها الآخرين قصص أخري, لأن الحياة ممتدة, ولأن المصائر متشابكة متقاطعة, واذا كان بإمكاننا أن نبدأ القصة فليس بإمكاننا دائما أن ننهيها, وألف ليلة وليلة إذن هي الحياة نفسها وهي الزمن كله, وليست الليلة الأخيرة بعد الألف إلا إشارة لما لا نهاية له من الزمان.وألف ليلة وليلة هي الحياة وليست مجرد تمثيل لها أو تقليد كما هي الحال في القصة الغربية. القصة الغربية هي فن المدينةالغربية الحديثة التي اهتمت بالفرد وبالبيئة والظروف التي تصنع شخصيته وتحدد مصيره, وتلك هي المادة التي تعالجها القصة الغربية والحدود التي تتحرك داخلها. واقعة أو وقائع محددة, وأبطال نتابع أفعالهم وردود أفعالهم من البداية الي النهاية, أما ألف ليلة وليلة فهي فن المدينةالشرقية في العصر الذي لم يكن يتميز فيه فرد عن الآخرين, ولهذا تتسع للجميع, وتبدأ ولا تنتهي, لأن بعضها يتوالد من بعض, والقصة تقودنا الي القصة, كأننا في قصر التيه أو اللابيرنت, ندلف من بابه المفتوح الي قاعاته وأبهائه حيث يقودنا البهو الي البهو والقاعة الي القاعة, فإذا أردنا أن نخرج وجدنا أنفسنا تائهين عاجزين عن العودة الي حيث كنا, ونحن في الحياة نستطيع أن نتقدم الي المستقبل, لكننا لا نستطيع العودة الي الماضي, وهكذا تفعل شهرزاد, انها تسابق الزمن وتواصل القص, لأن سكوتها لا يعني إلا أن تموت, وحياتها مشروطة بأن تواصل الحكاية وتستخرج منها حكاية جديدة, انها تصارع الموت بالفن, وتنتصر علي الواقع بالخيال, وبالكلمة كما رأي الأستاذ جمال الدين بن الشيخ في دراسته عن ألف ليلة وليلة التي سماها الكلمة الأسيرة, والكلمة في هذه الدراسة هي شهرزاد نفسها التي تحولت الي كلمة لابد أن تظل ناطقة وإلا ماتت. لكن شهرزاد ليست وجها واحدا, وانما هي الحقيقة التي تتعدد وجوهها فيري كل منا من هذه الوجوه ما يظهر له ويري نفسه فيه, توفيق الحكيم رآها في مسرحيته شهرزاد روحا وجسدا, وقلبا وعقلا, ورآها رمسكي كورساكوف في متتابعته السيمفونية مدينة مسحورة وحلما بعيد المنال. أما المخرج الايطالي بازوليني فقد رأي شهر زاد في أبطال قصصها وكذلك رآها الشاعر طاهر أبوفاشا في المسلسل الاذاعي الذي قدمه لنا هو والمخرج بابا شارو والفنانة زوزو نبيل. أما وليد عوني فقد عبر العصور مع شهر زاد في البالية الذي قدمه أخيرا, ورأي كيف تخلصت من قيودها, واستردت حقها في الحياة والحب والحرية. والحديث عن ألف ليلة وليلة يبدأ ولا ينتهي, لأن هذا الأثر الخالد متعدد الوجوده, ولأنه لم يعد يخص الثقافة العربية, وانما أصبح ملكا للبشر جميعا يقرأونه, ويستلهمونه, ويفسرون رموزه, إذ يجدون في عفويته وبساطته وخياله الجامح ما يلبي حاجاتهم الدفينة, ويحررهم من أغلالهم المرئية وغير المرئية, وقد يندهش القاريء المصري حين يعلم أن زميله الأوروبي قرأ ألف ليلة وليلة قبله, فقد صدرت الترجمات الفرنسية والانجليزية الأولي في أوائل القرن الثامن عشر, علي حين صدرت الطبعة المصرية الأولي بعدها بأكثر من مائة عام, وقبل سنوات احتفل الفرنسيون بصدور ترجمة جديدة لليالي العربية في سلسلة الروائع لابلياد, أما عندنا فلدينا محامون لا يدافعون عن حرية الرأي, بل يطالبون بإعدام شهرزاد, وإطلاق يد الجلاد في رقاب العباد!