ظاهرة العنف أو الإيلام الجسدي للعبيد والنساء هي عقوبة بدائية وحشية استمرت في التاريخ تحت اسم الشرعية القانونية أو الشريعة الالهية , وأصبحت تتخفي في عصرنا الحديث تحت كلمات براقة مثل الهوية والديمقراطية وقيم العائلة والقرية. وتم اكتشاف زيف هذه الكلمات بعد رؤية الدماء تراق في الشوارع والسجون والبيوت. التخلص من العنف يقتضي التخلص من أسبابه الراسخة في نظام الحكم والدولة والعائلة, والكامنة في العقل والشعور واللاشعور منذ الطفولة الأولي, منذ تلقين القيم التي تفرق بين البشر علي أساس الجنس والدين والطبقة والجنسية وغيرها لابد من اعلاء الهوية الانسانية المكتسبة بالعمل المبدع الصادق علي الهويات البيولوجية الموروثة ان أردنا القضاء علي العنف هل نفرق بين الناس علي أساس لون البشرة أو الدين؟ أليست هي عودة الي العنصرية؟ الواضح أن العنف ينتشر في بلادنا والعالم بسبب تصاعد الفكر الديني السياسي القائم علي التناقض والازدواجية والتفرقة بين البشر. وفي المدرسة الابتدائية عام1942 ضربني المدرس علي أصابعي حتي نزفت الدم لأني سألته سؤالا بديهيا: هل يكون بالجنة ورق وأقلام لمن يريد أن يكتب؟, كان المدرس قد قال لنا إن الجنة سيكون بها عسل ولبن وكنت أحب الكتابة أكثر من أكل العسل أو شرب اللبن. وفي مشرحة كلية الطب عام1952 رأيت جثة طفلة في الثالثة عشرة مقتولة بيد أبيها تحت اسم الشرف, وطفل عمره ثمانية أيام نزف حتي الموت بعد عملية ختان, وخادمة في العاشرة من عمرها ضربتها حتي الموت سيدتها ربة البيت, وشاب فقير تم سحله في مظاهرة سلمية ضد الملك والانجليز. هذه أمثلة قليلة لأنواع العنف المشروع التي شهدتها في المدرسة والجامعة. العنف هو قانون القوة فوق الحق, والرئيس فوق الشعب, والرجل فوق المرأة, وسلطة الأب المطلقة من سلطة الرب وتحت اسم الشريعة يمكن للزوج أن يتزوج ويطلق عدة مرات وينكر أطفاله كما يشاء ويمكن لعجوز عمره مائة عام أن يتزوج طفلة. والبعض جعل الشريعة تكيل بمكيالين فيما يخص قانون الأسرة, وتتعرض الزوجات والأطفال للضرب تحت اسم التأديب, فان ثارت النساء والاطفال تم اتهامهم بالعنف تحت اسم الشرعية الدولية. في وقت من الأوقات أمسك جورج بوش بكتاب الانجيل وأعلن عن غزو العراق, وتم سحل الشعب العراقي والاستيلاء علي موارده دون أن تنطق محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن. ولاتكف الدول الكبري عن البطش بالدول الصغري تحت اسم الشرعية الدولية, التي تكيل بمكيالين, تطبق فقط علي الضعفاء من الدول الصغيرة, وتخرقها كل يوم الدول القوية المالكة للسلاح النووي ومنها اسرائيل. ولنلاحظ بطش البوليس الأمريكي بالمظاهرات الشعبية السلمية( احتلوا وول ستريت) والتي قامت ضد عنف القانون الأمريكي الذي يسبب الفقر لأغلبية النساء والشباب. تحت اسم الشرعية يصبح عنف الأقوياء المسلحين مشروعا, وتحت اسم الشريعة يصبح عنف الرجال هو القانون. وتحت اسم الشرعية قام نظام مبارك بقتل الآلاف في المظاهرات الشعبية السلمية ونهب الأموال المصرية وتحويلها للخارج, ولاتزال مصر عاجزة عن استرداد هذه الأموال. ومازال مبارك وأعوانه بعيدين عن أي عقاب رغم سيل الاتهامات ضدهم والمحاكمات المتكررة دون أحكام, وتحت اسم الشرعية يقوم حكم الاخوان المسلمين بما قام به الحكم السابق, إلا أن كلمة الشريعة تغيرت فأصبحت الشريعة, والقانون البشري أصبح القانون الالهي. والكل يتحدث عن العنف, والكل يتفادي الكشف عن جذور العنف في القوانين السائدة في الدولة والأسرة, وحين يعجز الدستور أو الطبقة أو الدين, فان العنف ينتشر يقع العنف في صمت علي النساء والأطفال. وحين يقع العنف علي الآباء يرتفع الصراخ العنف ضد النساء هو شرع الله, فالله رفع الرجال فوق النساء.. والعنف ضد الفقراء مشروع, فالله خلق الغني والفقير وخلق الناس درجات.. يغرق العالم في الدماء والحروب والفتن والنهب.. وتعيش الأمهات والأطفال وراء الأبواب المغلقة في الحزن والغم. لقد فشلت مفاوضات السلام بين اسرائيل والفلسطينيين لأكثر من ستين عاما, لأن السلام لا يحدث بغير عدل, وينال مجرمو الحرب جوائز نوبل لأن جوهر القانون العبودي لم يتغير. الثقافة في بلادنا تنبع من الفكر الرأسمالي الأبوي الذي يختزل الديمقراطية في الانتخابات ونتائج الصندوق, ويختزل العدالة الاقتصادية في معاشات للعاطلين ومساعدات للمعاقين, ويختزل تحرير النساء في حرية التغطية حسب أمر الله أو التعرية حسب أوامر السوق الحرة, وقد تم اجهاض الثورة المصرية خلال العامين الماضيين بالحوار التوافقي التراجعي خطوة وراء خطوة, والفكر الانتهازي الانهزامي الذي يشيع أن نظرية الثورة لم تنجح في بناء نظام ديمقراطي في أي بلد في العالم. واختزال أهداف الثوره في حشد الجماهير أمام صناديق الانتخاب بالخداع الاعلامي, والرشاوي في الدنيا والآخرة. كانت طوابير النساء والفقراء أطول الطوابير في أعراس الديمقراطية المتكررة, مع ذلك تم استبعادهم من غنائم الصناديق ومن صياغة مواد الدستور, وتم حرمانهم من نصيبهم في الدوائر ومقاعد الحكم والبرلمان والشوري. ويتم الخداع بشتي الكلمات البراقة: الديمقراطية, الصندوق, الهوية الاسلامية, الوطنية المصرية, الخصوصية الثقافية, قيم التراث والعشيرة والجماعة. وسادت القيم الذكورية واللغة السوقية التي تهين كرامة المرأة تحت اسم الرجولة طالت اللحي والشوارب وغلظت الأصوات, وانكسفت النساء مختفيات وراء الحجاب والنقاب. وانتشر التحرش الجسدي بالفتيات في المظاهرات لطردهن من صفوف الثورة, واعادتهن الي حظيرة البيت وقانون الطاعة. وهذا العنف كله ليس عنفا بل تأكيد الهوية الاسلامية. المزيد من مقالات د.نوال السعداوى