أعتقد أن الوقت قد حان لكي نكف عن دفن الرءوس في الرمال, و أن ننظر بكل الجدية للوضع المائي الحالي في مصر, و الخطط الشديدة الطموح التي تهدف إلي استزراع مساحات جديدة تقدر بملايين الأفدنة و ترتكن علي المشروعين العملاقين توشكي في الجنوب و ترعة السلام غرب قناة السويس وشرقها في شبه جزيرة سيناء العزيزة. ويظهر جليا لخبراء المياه العالميين و المحليين محدودية الموارد المائية في مصرنا الحبيبة, و تناقص فرص تنميتها, و يتزامن ذلك مع التنمية المتسارعة في دول منابع النيل, و ما يثار عن السدود الإثيوبية و غيرها, وما يمكن أن تسببه من تأثيرات سلبية علي حصة مصر من مياه النيل, حيث سيصبح هدفنا الرئيس هو الاحتفاظ بحصتنا السنوية دون نقصان, والتي تقدر بخمسة و خمسين و نصف مليار متر مكعب. هذه الحصة تتيح نصيبا متوسطا قدره نحو650 مترا مكعبا سنويا لكل مصري لكافة الأغراض من شرب, و صناعة, و زراعة, وغيرها. ومع الزيادة السكانية المطردة, و المتوقع أن تصل إلي160 مليون نسمة بحلول عام2050 إن شاء الله, سيهبط هذا النصيب السنوي إلي أقل من350 مترا مكعبا للفرد بفرض ثبات حصة مصر من النيل وعدم تأثرها بالتنمية في دول المنابع. ومع التلوث المستمر لمياه نهر النيل, و الترع, و المصارف, وبالذات عند النهايات, تقل نوعية مياه الصرف الزراعي المتاحة لإعادة الاستخدام, والتي تسهم بنسبة خمسين بالمائة في استصلاح الأراضي الجديدة كما هو مخطط لترعة السلام, حيث من المفترض أن تسهم مياه الصرف الزراعي من مصرف بحر حادوس بنسبة النصف في مياه الترعة لتخلط مع المياه النيلية لزراعة نحو620 ألف فدان يقع400 ألف فدان منها داخل سيناء. وتقدر مياه الصرف الزراعي بشرق الدلتا, والتي باتت تلقي في بحيرة المنزلة ومنها للبحر المتوسط حوالي5 مليارات متر مكعب سنويا دون الاستفادة منها نتيجة لشدة تحميلها بالأملاح و الملوثات. ولتعمير سيناء أهداف متنوعة منها الاقتصادي والاجتماعي وأهمها الاستراتيجي, حيث يجب تكثيف السكان في شبه الجزيرة وفي بقاع إستراتيجية بعينها لخلق الكثافة السكانية التي تصعب من غزوها و احتلالها, وتقضي علي بؤر الإرهاب المزمنة. ولن يتأتي هذا التكثيف السكاني إلا من خلال التنمية المستدامة وخلق فرص جاذبة للاستثمار و للعمالة. ومن البديهي أنه لن تكون هناك تنمية دون مصادر للمياه تتوافر بشكل دائم. ومن المعروف في الحالة المصرية أن الفدان المنزرع يحتاج من5 إلي10 أضعاف الفدان المستغل في الصناعة بكافة مستلزماتها. أما علي صعيد الكثافة السكانية فإن الفدان المنزرع يستوعب عائلة مكونة من خمسة أفراد في المتوسط, في حين أن الفدان المستغل في الصناعة بمستلزماتها قد يستوعب نحو5 عمال في المتوسط, و بأخذ أسرهم في الاعتبار قد يصل هذا الرقم إلي20 فردا. حبا الله سيناء بالكثير من الثروات المعدنية مثل الطفلة والحجر الجيري, اللذين يستخدمان في صناعة الأسمنت, وكذلك مناجم الفحم, والحديد, والمنجنيز, وأطنان الرمال عالية النقاء والتي تستخدم في صناعة أشباه الموصلات, وأجزاء مهمة للصناعات الدقيقة مثل صناعات الحاسبات الآلية والأجهزة الطبية. كما تعد بحيرة البردويل واحدة من أنقي بحيرات العالم و تنتج كميات لا بأس بها من أجود أنواع الأسماك بالمنطقة. إلا أن الدولة مازالت تعقد علي مشروع ترعة السلام آمالا عريضة في زيادة الرقعة الزراعية والكثافة السكانية, حيث تعبر المياه النيلية إلي سيناء من خلال سحارة أسفل قناة السويس, بالإضافة إلي أن استغلال أهل سيناء لبعض الخزانات الجوفية الضحلة و العميقة تعتبر استغلالا غير اقتصادي, وتحلية مياه البحر في المنتجعات الجنوبية للأغراض المنزلية. وتشير اقتصادات تقنيات تحلية مياه البحر إلي تناقص تكلفتها في حالة إنتاج كميات كبيرة منها لقيمة تصل إلي ثمانين قرشا للمتر المكعب, و هذا يمثل طفرة إقتصادية هائلة حيث يكافئ هذا السعر20 بالمائة فقط من ذات التكلفة منذ عشر سنوات. وفي هذا السياق نطرح فكرا جديدا للنهضة بسيناء وهو فكر قائم علي التركيز علي تحويل سيناء إلي عدد من المجتمعات الصناعية عند البقع الإستراتيجية, و الاكتفاء بزراعة نصف المساحة المقررة علي ترعة السلام داخل سيناء والاعتماد علي المياه النيلية فقط بغرض تخصيص تلك المساحة للزراعات ذات العائد الاقتصادي المرتفع والاستفادة من الموقع الفريد في تصدير تلك المحاصيل لدول جنوب أوروبا ومنطقة الخليج, كما يمكن تعظيم العائد من تلك الزراعات باستغلالها في أغراض التصنيع واستخدام باقي مياه الترعة في خلق مجتمعات صناعية تصدر منتجاتها إلي أوروبا, وآسيا, وإفريقيا, وثم تزيد الكثافة السكانية في نحو2 مليون فدان يمكن أن تستوعب أكثر من ثلاثين مليون نسمة. هذا بالإضافة إلي تكثيف الاستزراع السمكي علي مياه الآبار المالحة في وسط شبه الجزيرة, حيث يمكن إنتاج و تصدير أنواع من القشريات والأسماك ذات الجودة و القيمة العالية مثل الجمبري, و القاروس, والدنيس, والبوري, ثم تستخدم المياه الناتجة من الاستزراع السمكي, و الذي يسهم في تخصيب هذه المياه, في زراعة محاصيل تتحمل الملوحة مثل الزيتون, و النخيل, و الجوجوبا, والتي يستخرج منها الزيوت الغذائية, و الطبية, و الميكانيكية ذات الجودة العالية, والتي تجد طريقها بسهولة ويسر للأسواق الأوروبية, كما يمكن أيضا زراعة البرسيم و تربية الأغنام و الماعز عليها تماشيا مع الطبيعة الرعوية للبدو الذين يمثلون القوام الأكبر لسكان سيناء الأصليين. و هناك أمثلة ناجحة لتعظيم العوائد من نقطة المياه بالدلتا ووادي النطرون عن طريق الإدارة المتكاملة و المؤثرة للبيئة المائية, هذا بالإضافة إلي تكثيف إنتاج الأسماك ببحيرة البردويل, و التوسع في سياحة الاستشفاء و السياحة الدينية. كما يمكن زيادة كميات المياه المتدفقة إلي سيناء عن طريق إعذاب جزء من المياه التي تلقي في بحيرة المنزلة والبحر المتوسط, و استعادة التكلفة من المستثمرين الصناعيين و الزراعيين. من هذا المنطلق علينا التفكير خارج الأطر التقليدية, و دعم جهاز تنمية سيناء ليصبح له فكر إستراتيجي متكامل مترجم لخطط خمسية و استثمارات, و هنا نقترح أن يكون لرئيسه صلاحيات نائب رئيس الوزراء ليتمكن من تنفيذ خطط الجهاز بالتعاون مع الوزارات المعنية. وهنا أنهي هذا المقال بالحكمة القائلة بأنه ليس من العقل أن نستمر في القيام بنفس العمل بنفس الطريقة و نتوقع نتائج مختلفة.