ولدت حضارة وادي النيل يوم عرف أجدادنا أن لهذا الكون خالقا أبدع ما تراه العين, وتسمعه الأذن, وتلمسه اليد, ربما تكون هذه العبارة تلخيصا لما عبر عنه عدد من المفكرين ممن حاولوا ان يكشفوا سر عظمة الحضارة المصرية القديمة واستمراريتها وما بقي منها حتي الآن في نفوسنا ولايزال يشكل المصد كلما تعرضت مصر للمحن. ذلك السر الذي لخصه هنري بريستد في مؤلفه الشهير فجر الضمير في عبارة البناء الاخلاقي واشار اليه كثيرون ممن استطلعوا معالم المنظومة الاخلاقية والدينية التي شكلت معالم حياة الاجداد, ولايزال صداها يتردد في نفوس الابناء حتي هذه اللحظة, واولئك الذين غاصوا في اعماق الحضارة العريقة لكشف الابعاد الروحية الكامنة داخلها ومعالم البرنامج الروحي الذي آمن به اجدادنا وجعلوه دستورا لحياتهم الدنيوية وفي الآخرة, فكان المعجزة وكانت الحضارة التي لا تزال البشرية تقف مشدوهة امام معالمها, حائرة في حل الغازها.. وكان التاريخ الذي لاينقطع, ليظل للتاريخ المصري وموروثه الثقافي والديني خصوصية متفردة. ومع إشراقة عام جديد واقتراب الاحتفال بعيد الميلاد المجيد نحاول ان نستعيد معا بعضا من ذلك البناء الاخلاقي المثير للخيال والانبهار, حيث تتداعي عبر مراياه ذكريات و حكايات نعايش فيها بعضا من ملامح الثقافة القبطية القديمة وعلاقتها بالتراث المصري الفرعوني ومصر المعاصرة.. نحاول ان نستنطق الاحجار وحبات الرمال لاستعادة ذاكرة المكان وتفاصيله وحيوات البشر وتأثير المكان عليهم وتأثرهم به, وكيف حفظ التراث المصري رؤي جمعت بين القدسي والارضي, وجاوزت الدنيوي المحدود الي المطلق اللانهائي, وان لم يخل الاخير من وشائج الصلة بالحياة علي الارض ليستمر الارتباط بين الفراغ المحسوس انسانيا والفراغ اللانهائي الذي أبدعه الخالق. ولان مصر كانت شريكا في قصة التوحيد منذ البداية, ولان سيناء تحديدا كانت لنبي الله موسي عليه السلام قاعدة ومنطلقا ولنبي الله عيسي عليه السلام ملجأ وملاذا ووردت في محكم آيات العزيز الحكيم, نرتحل اليوم لبقعة من ارض سيناء كانت واحة للمتعبدين الاوائل, ومركزا لأبرشية سيناء قبل إنشاء دير سانت كاترين. ففي ذكري عيد الميلاد المجيد نشد الرحال الي وادي فيران الذي جمع بين البشر والحجر والشجر, واختزن مخزونا حضاريا وطبيعيا متفردا حيث تركت الحضارات نقوشها علي صخوره الوردية التي خلدتها ريشة الفنانين قديما وحديثا في لوحات, لعل اشهرها لوحات الفنانة اليونانية ايليني باولو التي صورت عناق الشجر للحجر في رحاب قداسة الموقع وجباله الشاهقة. يقول الباحث الاثري عبد الرحيم ريحان مدير آثار نويبع ودليلنا في رحلتنا: يقع وادي فيران علي بعد60 كم شمال غرب دير سانت كاترين, طوله5 كم وعرضه ما بين250 الي375 م, ويحده من الشمال جبل البنات ومن الجنوب جبل سربال ومن الشرق جبل ابورا ومن الغرب جبل هداهد ويمتاز بالمياه الغزيرة من عيون امامها خزانات تتجمع فيها المياه كالبركة وتسمي محاسن, ومن الخزانات تخرج قنوات المياه الي الحدائق. وقد اكتسب هذا الوادي شهرة وقداسة منذ القدم لوجوده في سفح جبل سربال, واسم سربال مأخوذ من سرب بعل وتعني نخيل المعبود بعل, اشارة الي نخيل وادي فيران في سفحه, وكان مقدسا قبل رحلة خروج بني اسرائيل الي سيناء حيث كانوا يحجون اليه. ويعتقد بعض المحققين ان الجبل هو جبل سيناء او جبل حوريب الذي تلقي عليه نبي الله موسي عليه السلام. ويقول المؤرخون الغربيون ومنهم كليتون إنه كان بوادي فيران نهر وقد ذكر انها غرقت بالماء, والسكان الاصليون في فيران كانوا من العرب الانباط بالاضافة الي العرب من اهل سيناء والقادمين من مصر, وهؤلاء العرب في فيران بعضهم دخل المسيحية ثم تحول معظمهم للاسلام بعد دخوله ارضهم. ويشير ريحان لزيارات الحجاج المسيحيين لوادي فيران ومنهم الراهب كوزماس عام535 م والراهب انطونيوس عام565 م ولقد التجأ النساك الي وادي فيران وبنوا قلايا من الحجر مساكن الرهبان ولجأوا لعدة مواقع بوادي فيران منها وادي سجلية وبه موقع الكرم الذي يرتفع1200 م فوق مستوي سطح البحر وبه دير صغير يحوي اربع قلايا وعين ماء وخمس شجيرات نخيل ومحاط باماكن زراعية خصبة, كما تجمع الرهبان علي قمة جبل منحدر2 كم شرقي تل محرض يسمي جبل البنات ويحتوي هذا الجبل علي دير يطلق عليه دير البنات يعود للفترة من القرن الخامس الي السادس الميلادي. وقد كانت فيران في القرن الرابع الميلادي مدينة اسقفية حولها العديد من القلايا وبها مقعد الباباوية وكان فيها عدة اديرة وكنائس وفي عام535 م كان الاسقف ثيوناس يحمل لقب أسقف ومندوب الجبل المقدس ودير رايثو وكنيسة فيران المقدسة, وآخر مطارنة فيران هو ثيودورس عام649 م وبعدها انتقل مركز الاسقفية الي طور سيناء منطقة سانت كاترين الحالية بعد بناء دير طور سيناء الذي اطلق عليه بعد ذلك دير سانت كاترين واصبح دير سانت كاترين مركزا لأبرشية سيناء, وأصبح رئيس الدير مطرانا للأسقفية, ولقبه مطران دير طور سيناء وفيران وراية مدينة الطور الحالية. وعن الاكتشافات المهمة بهذه الواحة يشير ريحان لاكتشافات بعثة آثار المعهد الألماني بالقاهرة برئاسة د. جروسمان, والتي كشفت عن مدينة بيزنطية بمنطقة تل محرض في الجزء الجنوبي الشرقي من دير البنات الحديث بوادي فيران مساحتها200*400 م ولها سور خارجي بني في القرن السادس الميلادي بنيت أساساته من حجر الجرانيت والأجزاء العليا من الطوب اللبن وتهدمت أجزاء من هذا السور في الجزء الغربي بفعل السيول بالمنطقة, وقامت البعثة بترميم للسور باستخدام الأحجار الجرانيتية المتساقطة وبالمدينة بقايا لمنازل, جدرانها من الطوب اللبن فوق اساسات من حجر الدبش الجرانيتي, ومن الكتل الحجرية المتراكمة في مجري السيول, وتوزيع المنازل يدل علي وجود بعض الطرق الضيقة بالمدينة, وعن كنائس فيران يوضح ريحان أن مقر كاتدرائية فيران يقع في أقصي الجزء الشمالي الشرقي من المدينة, أما كنيسة المدينة فتقع في المنتصف, كما تم كشف كنيستين داخل المدينة, فيكون عدد الكنائس بالمدينة أربع, وذكر الحجاج المسيحيون الذين مروا بوادي فيران وجود حامية بتل محرض وشاهد علماء الحملة الفرنسية هذا التل ونقلوا عن الرهبان والبدو أنها أطلال مدينة صغيرة كان يسكنها المسيحيون, وقد أنشئت هذه المدينة علي أنقاض مدينة للأنباط, وكان الرهبان يدفنون موتاهم في مقابر حول المدينة, وعلي جبل الطاحونة المواجه لتل محرض, والذي يرتفع886 م فوق مستوي سطح البحر توجد كنيستان كبيرتان بالإضافة لثلاث كنائس صغيرة, وقد شاهد علماء الحملة الفرنسية إحدي هذه الكنائس الواقعة علي قمة جبل الطاحونة, التي استخدم في بنائها الحجر الجرانيتي الأحمر والحجر الرملي الأحمر, وكان لها دور مهم في علاج المرضي. فقد خصصت كنيسة المدنية التي قام بتأسيسها الراهب موسي للرهبان الأطباء كوزماس ودميان في الخدمات الدينية أيام الأحد والأعياد, فقد استخدمت أيضا لعلاج المرضي. وعلاوة علي معمارة الكنيسة الذي يوجد به مقاعد للجلوس علي طول الجانب الداخلي للجدار الجنوبي, وحجرة بالنهاية الغربية من الرواق الجنوبي استخدمت لتسخين المياه وتجهيز الطعام للمرضي وذلك بعض ما كشفه نقش العتب العلوي للباب الجنوبي للكنيسة الذي عثر عليه في حفائر البعثة الألمانية منقوشا باللغة اليونانية. أما حديقة دير سانت كاترين التي يسقيها خزان كبير بجوار تل محرض الأثري, فقد قام رهبان الدير ببناء كنيسة بها استخدموا فيها أعمدة قديمة أخذت من أسقفية فيران, وتسمي كنيسة سيدنا موسي, وتم بناء دير حول هذه الكنيسة خصص للراهبات التابعات لدير كاترين, ويسمي دير البنات. وتنتهي الرحلة في واحدة من بقاع مصر لم تحفظ فقط صفحة من تاريخها ومنظومتها الأخلاقية والتعايش بين أصحاب الديانات, بل أيضا جسدت حقبة التفاعل بين الإنسان والبيئة المحيطة, وتبقي كلمة, ألم يحن الوقت بعد لاستغلال هذا الوادي الساحر, وغيره من الأماكن التي سبق أن قدمنا لها صورا قلمية علي هذه الصفحة سياحيا؟! ألم يحن الوقت لاستعادة بعض من ذاكرة مصر والاستفادة من طبيعتها ومفردات تاريخها لتصبح متحفا طبيعيا مفتوحا يضم كنوزها المعمارية والفنية ويحتضن هذا التاريخ المهمل بين الاطلال؟.